في صيف العام 2015، دُعِيتُ من قبل هيئة قضاء زحلة في “التيار الوطني الحر” الى جلسة حوار مفتوحة مع كوادر “التيار” وأنصاره. إفتتحت الجلسة بالقول: إن العماد ميشال عون هو الشريك الوطني المسيحي الذي كان يبحث عنه الإمام السيد موسى الصدر فوجده السيد حسن نصرالله. لم تكن هذه العبارة من باب المجاملة ولا المحاباة للحاضرين، بل كانت تعبيراً عن قناعة بأن الشراكة التي أرادها الإمام الصدر العام 1976، حين رفض قرار الحركة الوطنية اللبنانية عزل “حزب الكتائب” بإعتباره الممثل السياسي الأبرز للمسيحيين اللبنانيين، إنما سيؤدي الى عزل المسيحيين كافة وليس الكتائبيين وحدهم. وجدت صداها من خلال رفض العماد ميشال عون عزل “حزب الله” الممثل الشعبي الأبرز للشيعة مخافة أن يؤدي ذلك الى عزل الشيعة كافة.
في العام 1976 لم يلاقِ “حزب الكتائب” الإمام الصدر في منتصف الطريق، فانفجرت الحرب الأهلية التي قادت الى تقسيم البلاد ورسم خطوط تماس سياسية-طائفية فانعزل اللبنانيون عن بعضهم بعضاً.
أما في شباط العام 2006، فإن إستدراك عدم تكرار تلك التجربة المريرة والمؤلمة من تاريخ الوطن، أدى الى منع عزل “حزب الله” وبالتالي الشيعة، بعدما كان “الحزب” نفسه قد سلم مقاليد السلطة طوعاً لشركاء مفترضين إثر خوضه الانتخابات بتحالف رباعي مع ثلاثي الحريرية السياسية “الحريري، بري وجنبلاط”، هذا الثلاثي الذي إستشعر منذ اللحظة الأولى لعودة ميشال عون من باريس خطر قدرته على الإمساك بجمهور الساحة المسيحية الذي كان متعطشاً لحضور سياسي ودولتي، بعد إحباط ومن ثم إنكفاء قسري عن المشاركة في إعادة تكوين السلطة وفقاً لمندرجات الدستور الجديد: الطائف. لم تكن التوقعات الوطنية من تفاهم “مار مخايل” تشبه أية توقعات من التفاهمات أو الإتفاقيات أو التحالفات الأخرى الممجوجة التي إعتاد اللبنانيون متابعة وقائعها وتبدلاتها الدائمة. ذلك أن العناق الباسم بين السيد نصرالله والعماد عون الذي أثلج قلوب جماهير الرمزين الآتيين من خارج منظومة سلطة الفساد والميليشيات والتقلبات السياسية، أوحى بأن لبنان سيدخل مرحلة جديدة من تاريخه، يمكن أن تشكل تعويضاً عما فات اللبنانيين من إمكانية بناء دولة عادلة وقادرة ونظيفة، كما يمكن أن تكون مدخلاً حقيقياً لترسيخ صيغة التعايش الإسلامي المسيحي بمعانيه السماوية وليس الدنيوية، إنطلاقاً من إعتبار هذا التعايش ناظماً لمبدأي العدالة الاجتماعية والمساواة، كذلك ضامناً للإستقرار الاجتماعي قبل السياسي.
قد يرى بعض الناس في توصيفي هذا حُلماً بعيداً عن الواقعية، ومن قال إن قيام وطن ذي رسالة حضارية إنسانية، أو أن توفير حياة محترمة كريمة للشعب، لا يستوجب وجود قادة حالمين يتكبدون العناء والتعب ويمتهنون الإيثار والتضحية في سبيل رِفعَة شعوبهم وأوطانهم.
خاصة وأن تجربة الشعب اللبناني منذ حوالى ثلاثين عاماً مع المسؤولين غير المسؤولين والسياسيين “الحرابيق” الواقعيين، لم تنتج سوى الفساد والمحسوبية والزبائنية السياسية وبالتالي الخراب والإنهيار.
“حزب الله” ونبيه بري
لا يمكن قراءة مسار العلاقة بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” بعد التوقيع على تفاهم “مار مخايل”، دون الأخذ بالحسبان العلاقة بين “حزب الله” ورئيس مجلس النواب نبيه بري. خصوصاً وأن تحالف الطرفين الأخيرين لم يرمِ بثقله على ذلك التفاهم فحسب، بل طالت تداعياته القوى السياسية الأخرى والأهم الدولة وإحتمالات تصحيح أداء مؤسساتها الدستورية والإدارية كافة. وإذا تجاوزنا العقبات التي وضعها الرئيس نبيه بري في طريق وزراء “التيار الوطني الحر” من خلال إمساكه بتوقيع وزارة المالية، وبالأخص في ما يتعلق بوزارة الطاقة والمياه. فإنه كان واضحاً أن بري الذي أغلق أبواب مجلس النواب بالرغم منه لأكثر من سنتين في وجه عقد أية جلسة إنتخابية رئاسية تأتي بغير العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، تعمد تحويل جلسة إنتخاب عون الى سيرك تهريجي من خلال لعبة الأوراق المزدوجة التي وضعت في صناديق الإقتراع، وذلك بهدف النيل من مشروعية عملية الإنتخاب وجديتها. وبالتالي توجيه رسالة الى عون و”الحزب” معاً أنه لن يرتدع عن محاولاته إسقاط عهد عون في بداياته. على الرغم من أن بري نفسه كان قد تلقى وعداً من السيد نصرالله بأن وزارة المالية ستبقى من حصته وأن علي حسن خليل تحديداً سيتولاها في حكومة العهد الأولى. وهو الوعد الذي كان قد إستحصل عليه السيد نصرالله من العماد عون في الجلسة الأخيرة التي جمعتهما وجهاً لوجه قبيل جلسة الإنتخاب الشهيرة.
بالتأكيد لم يرغب عون في منح بري هذه الوزارة مجدداً خصوصاً مع بدايات عهده، لكن رغبة السيد نصرالله في تطمين بري سلفاً بإيجابية نوايا العماد تجاهه، آملاً أن يتمكن لاحقاً من إدارة خلافات الحالتين العونية والبِرية بأقل قدر من السلبية، إضافة الى عدم إعتراض الصهر جبران باسيل في تلك الجلسة على تثبيت هذا الإلتزام حتى قبل وصول عون الى سدة الرئاسة، كل ذلك لم يُثنِ بري عن الإستمرار في ممارسة أساليبه التعطيلية التي أصابت من العهد مقتلاً وساهمت في قيادة البلد الى الإنهيار الكامل والشامل.
إعتاد “حزب الله” أن يَسُوقَ الكثير من الأعذار لتبرير صبره على أداء بري السلطوي في مؤسسات الدولة وإداراتها، أو لتظهير أن التحالف بينه وبين بري “يشكل ضمانة للوطن والمقاومة”! مع علمه المسبق والمؤكد أن الوقائع السياسية والإجتماعية والإقتصادية الناتجة عن إستعمال بري لفائض قوة “الحزب” في تعزيز نفوذه ورصيده الشخصي حصراً في السلطة والمال، أثبتت أن هذا التحالف كان على حساب حفظ علاقة إيجابية مع باقي مكونات الوطن، وسداً مانعاً في وجه قيام الدولة، ومانعاً لتحرر المقاومة من تداعيات سلبيات السلطة على سمعتها ومعنوياتها.
غير أن الأخطر يكمن في محاولات الإشارة همساً حيناً أو علناً أحياناً أخرى أن أي فَضٍ أو تشذيب لهذا التحالف سيؤدي حتماً الى عودة الصراع الدموي بين “حزب الله” وحركة الرئيس بري، بحيث يبدو الأمر وكأن الشيعة يعيشون في كانتون خارج كيان الدولة أو أنهم لا يخضعون لقوانين هذه الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية. والمؤلم أكثر أن يُستحضر عند كل نقاش حول هذا التحالف موضوع حرب “إقليم التفاح”. وكأن هذه الحرب لم تنته بعد في أذهان من يستعيدونها، أو كأنه بالإمكان حدوثها مجدداً في ظل الدولة مع العلم أنها حصلت في زمن اللادولة.
وهل الحليفان “الحزب” و”الحركة” أو أحدهما بلا أي مسؤولية وطنية وأخلاقية وشرعية كي يذهبا الى هذا النوع من الصراع؟! سؤال يستحق من “الحزب” تحديداً إجابة صادقة وصريحة تأخذ بعين الإعتبار إحترام عقول الناس وجمهوره.
“حزب الله” وجبران باسيل
في تفاهم “مار مخايل” كان جبران باسيل من المتفرجين وليس من صُناع هذا التفاهم. غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون أول وأكثر المستفيدين منه وزارياً ونيابياً وسياسياً، والأهم المُمسِك الأوحد بمفاتيح خيارات وعلاقات عمه ميشال عون العماد ومن ثم الرئيس. ولا يمكن تجاوز أن باسيل أدخل على لغة الحياة السياسية في لبنان مفردات ذات دلالات خارجة عن سياق الدستور وأدبياته ونصوصه وحتى إجتهاداته. ومثال ذلك: الأقوى في طائفته، تحالف الأقوياء، الميثاقية (وفق تفسيره الخاص)، حقوق المسيحيين… وآخرها اللامركزية المالية. وفي كل ذلك كان يتأرجح بين محاولاته تقديم نفسه خلفاً مُلطَفاً لمؤسس “القوات اللبنانية” بشير الجميل، وبين سعيه الى أن يكون نسخة مسيحية منقحة عن “عتاعيت” الحريرية السياسية وليد جنبلاط ونبيه بري. بالتأكيد لم يكن جبران باسيل ليتمتع بهذا الهامش من حرية التلاعب بمصير “التيار” وبمصير المسيحيين وحضورهم في الدولة لولا أمرين: الأول، وراثته السياسية المبكرة لعمه. والثاني، رهانه على حاجة “حزب الله” إليه ودعمه المطلق لأدائه، بإعتباره المانع الأساس لعزل “الحزب” ومحاصرته ضمن الدائرة الشيعية.
اليوم، يجلس باسيل على حافة خيارين أحلاهما مُرٌ، فإما أن يقطع حبل التفاهم مع “حزب الله” ويندفع بإتجاه محاولة إعادة تكوين حيثية مسيحية بحتة تكون مدخلاً له لإستعادة موقع متقدم في طائفته. أو أن يُبقي على هذا التفاهم مع كل ما اعترى تنفيذه من عراقيل وموانع جعلته نصاً يرعى تبادل المصالح بين طرفيه، بعدما إستحال تحويله الى رافعة لشراكة وطنية تؤسس لبناء الدولة أو على الأقل لتصحيح مسارها “الحريري”. في وقت بات الكثير من المسيحيين ومنهم “التيارون” يرون أن كلفة هذا التفاهم على وجودهم وعلى الكيان يُوجِب الانسحاب منه.
في هذا الوقت العصيب، ألا يستحق الذين راهنوا على صدق نوايا صانعي تفاهم “مار مخايل”: سيد الوعد وسيد العهد، أن يشهدوا في ذكرى توقيعه السابعة عشرة مراجعة جذرية وبناءة لهذا التفاهم تضيف عليه بعضاً من الشفافية والمصارحة أو الإفتراق بالتي هي أحسن.
وإذا كان السيد قد وفى بوعده، هل كان “العهد” مسؤولاً!