كان الرئيس نبيه برّي مصيباً عندما اعتبَر أنّ الجميع «هرهر» في الانتخابات البلدية. طبعاً كان رئيس المجلس النيابي يقصد بهؤلاء، الأحزابَ السياسية ولو بنسَب متفاوتة.
في الشارع المسيحي كان الحدثُ الكبير من خلال ولادة «تفاهم معراب» حيث وضِعت خطة كاملة ومفصّلة تضمّنَت طريقة ترجمة هذا التفاهم في الاستحقاقات المقبلة. وإذا كان بندُ رئاسة الجمهورية هو البند المعلن والأكثر إثارةً للجدل، فإنّ بنوداً كثيرة أخرى جرى التوافق حولها ترجمةً لهذا التحالف.
إذ قيل مثلاً إنّ الحكومة المقبلة التي ستتألف بعد الانتخابات الرئاسية من المفترض أن تشهد استرجاع حقّ المسيحيين بتسمية وزرائهم، على أن تكون هذه الحصة مناصفةً بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» مع تمسّك بحقيبة الداخلية.
كما لحَظ هذا التفاهم وجوبَ التحالف في الانتخابات البلدية لتشكّل نتائجها ترجمةً لشرعية الشارع، ما يَسمح لاحقاً بالانطلاق بشكل أقوى في الاستحقاق الرئاسي أو في الاستحقاق النيابي الذي سيُخاض بلوائح مشتركة أيضاً.
وقيل إنّه جرى خلال اللقاءات الطويلة والمتتالية دراسة وافية لكلّ مقعد نيابي يمكن أن ينتزعَه هذا التحالف فيما إذا خيضَت الانتخابات وفق القانون الحالي، وجاءت الحصيلة أكثر من خمسين مقعداً.
وتتقاطع القوّتان الحزبيتان بنظراتهما السلبية للقوى والشخصيات المسيحية المناطقية والمستقلة عنهما واعتبارها بمثابة نقاط ضعف تُحسن القوى الإسلامية استغلالها لتعزيز وضعِها داخل السلطة على حساب المسيحيين.
من هنا يمكن قراءة بعض المعارك الطاحنة التي حصلت وهدفَت في العمق إلى نزع الشرعية الشعبية عن هذه القوى والشخصيات تمهيداً لإبعادها وإقصائها لدى تشكيل اللوائح الانتخابية النيابية باعتبارها فاقدةً لشرعية تمثيلها الشعبي.
وخلال المدّة الفاصلة ما بين زيارة العماد ميشال عون التاريخية إلى معراب وإعلان وثيقة التفاهم وبين بدء الانتخابات البلدية، أشهُر معدودة وعلاقة قوية قامت على الحسابات السياسية والمصالح المشتركة والنوايا الحسنة، أو على الأقلّ هذا ما بدا يومها.
لكنْ مع انطلاق عملية الاقتراع البلدي ظهرَت مسائل عدّة غير مفهومة أو مناقِضة لتفاهم معراب، كان أبرزها إطلاقاً انتخابات بلدية جونيه. وبدا أنّ الجنرال الذي لم يجد تبريراً مقنِعاً لاصطفاف «القوات» ضدّه، اضطرّ للنزول بثِقله وخوض المعركة مباشرةً.
وقيل إنّ الاتصال الذي أجراه العماد ميشال عون بالدكتور سمير جعجع خلال اليوم الذي سبقَ فتحَ صناديق الاقتراع، حمَل الكثير من العتَب والمساءلة.
وما كادت الانتخابات البلدية تغلق صناديقها حتى ظهر سلوك جديد جاء بمثابة الصفعة الثانية لتفاهم معراب. ذلك أنّ جعجع دخل على خط انتخابات اتّحاد بلديات كسروان بقوّة ضدّ مرشّح «التيار الوطني الحر»، ولم يشَأ أن يبقى في الظلّ بل استقبلَ المرشّح الخصم علانيةً، في إشارةٍ إلى دخوله المباشر على الخط، وهو ما يناقض ما كان جرى التفاهم حوله.
وقبل كسروان، كان الوضع مشابهاً في انتخابات اتّحاد بلديات جبيل. في العادة وفي حالات وظروف مماثلة، تندثر المساحة الصافية لتبقى فقط المساحة المتعلقة بالحسابات والمصالح ولو وفق أجواء باردة.
وفي هذا الوقت جاء مَن يروي أنّه بعد إعلان تفاهم معراب وتصاعُد الضغط على أساس وجوب انسحاب النائب سليمان فرنجية للنزول إلى مجلس النواب وانتخاب المرشّح الذي توافقَت عليه أكبر قوّتين مسيحيتين، أرسَل جعجع إلى فرنجية من خلال الوسيطين طوني الشدياق والوزير السابق يوسف سعاده، ليسأله إذا كان يفكّر بالانسحاب.
وجاء جواب فرنجية بالنفي، وأنّ هذا لن يحصل، ليعود الشدياق وينقل لفرنجية عبر سعادة التزامَ جعجع أنّ «القوات» ستكون حزب العهد في حال نجح فرنجية في الوصول إلى قصر بعبدا.
صحيح أنّ جعجع نفى هذه الواقعة خلال مقابلته التلفزيونية مع الزميل وليد عبود، لكنّ أطرافاً أخرى معنية تؤكّدها وتتمسّك بها.
وإذا كان البعض فسّر موقفَ جعجع في جونيه واتّحاد بلديات جبيل وكسروان بأنه في إطار قطعِ الطريق على العميد شامل روكز ومنعِه من تشكيل حالة سياسية في المنطقة، إلّا أنّ تفسيرَ الرسالة إلى فرنجية لا تجد لها أيّ تفسير أو تبرير.
لكنّ البعض يرى الأمور من زاوية أخرى، فالانعطافة الحادة التي حتّمها تفاهم معراب على مسار الاصطفاف السياسي العام، خَلط الحسابات كلّها. وقيل يومها إنّ سعياً حصَل لفتح قنوات تواصل بين «القوات اللبنانية» و«حزب الله» تمهيداً لتعاون انتخابي في الاستحقاق النيابي المقبل، وإلّا فإنّ مناطق كثيرة تطمح «القوات» لتمثيلها نيابياً ستبقى عصيّةً عليها، مثل المتن الجنوبي وجبَيل. أضِف إلى ذلك أنّ الصراع الحادّ الحاصل مع الرئيس سعد الحريري جعلَ الصوتَ السنّي صعبَ المنال، لا سيّما في زحلة وبعض أقضية الشمال.
إلّا أنّه وبعد الموقف العلني للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بعدم التصويت لحليف الحليف، وجَد جعجع أن لا مفرّ من استعادة حرارة العلاقة مع الفريق السنّي مجدداً.
ولاحظ العديد من الديبلوماسيين تراجعَ الخطاب الهجومي الحاد من جعجع تجاه «حزب الله» طوال الأشهر الماضية، ليعود مجدداً في الأيام الأخيرة. وخلال الأيام المقبلة سيلتقي الرئيس سعد الحريري الدكتور سمير جعجع على طاولة إفطار بدعوةٍ من السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري.
خلال أحد اجتماعات تكتّل «التغيير والإصلاح» أخيراً، طلبَ النائب إميل رحمه الكلام وقدّم مطالعةً كاملة عن مواقف جعجع، واصفاً نفسَه «خبيراً» في هذا المجال، وقال: «يخطئ مَن يعتقد أنّ جعجع يوافق على مقولة الزعيم الأوّل والزعيم الثاني عند المسيحيين، هو يؤمِن فقط بمقولة الزعيم الأوحد وفهمكم كفاية». لم يعلّق أحد على كلام رحمه.
ورغم ذلك، من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأنّ تفاهم معراب آيلٌ إلى الفشل. هو ممنوع عليه الفشل، خصوصاً أنّه لا يزال أمامه مهمّة الاستحقاق الرئاسي وآمال العماد عون حوله، وأنّ ترشيح «القوات» له يعطيه نقاط قوّة، بغَضّ النظر عن الضرب الحاصل تحت الزنّار.
لكنّ السؤال الأهمّ: كيف ستحصل الانتخابات النيابية وكيف ستكون تركيبة اللوائح في ظلّ القانون الحالي؟ أمّا إذا اعتمد القانون المختلط فإنّ الصورة تصبح أكثر سهولة، حيث سيخوض كلّ حزب المعركة بلوائح منفردة.
يقول جعجع إنّ تفاهم معراب هو أكثر اتّفاق تعرّضَ لإطلاق النار، متسائلاً عن السبب؟
في الحقيقة قد يكون إطلاق النار على «التفاهم» إنّما حصَل من داخله، ما جعلَ الأجواءَ غيرَ صافية.