إذا كان العنوان الأوّل والعريض الذي نتج عن المرحلة الأولى للإنتخابات البلدية هو تقاعس الناس عن المشاركة ما فُسّر بأنه رسالة إعتراض ضدّ الأحزاب المسيحية والسنّية والبحث عن قوى تمثيلية أخرى، فإنّ العنوان الاساس للمرحلة الثانية التي تتركز في أقضية جبل لبنان او أقضية القرار السياسي، هو إعادة فرز الساحة وتحديد الأحجام الشعبية وخلق خريطة نفوذ جديدة تؤسّس للمرحلة المقبلة.
لكنّ العنوان العريض الذي يحكم كامل الانتخابات البلدية هو ترتيب خريطة الأحجام الشعبية ومحاكاة التحالفات المنتظرة للانتخابات النيابية والتي يمكن القول إنها ستنطلق حركتها فور إغلاق آخر صناديق الاستحقاق البلدي.
فمع بدء الانتخابات البلدية بات الجميع على يقين بأنّ الاستحقاق النيابي حاصل حتماً. وما بين البلدي والنيابي، يبقى هاجس الانتخابات الرئاسية حاضراً، خصوصاً في الأقلام المسيحية وهو ما ميّز مثلاً انتخابات جونية البلدية.
خلال احتفال الفوز للائحة زحلة، تحدث رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بوضوح عن الهدف الرئيس من المعركة، حين قال إنّ قرار زحلة أصبح في يد الأحزاب، ما يعني ضمناً أنّ الهدف كان تصفية القوى المحلّية في المدينة.
لكنّ المراقبين على مختلف توجّهاتهم أجمعوا على أنّ النتيجة الرقمية التي رست عليها الانتخابات في زحلة جاءت عكس ذلك، ولذلك ربما تأخّر احتفال الفوز بضعة أيام وجاء متواضعاً بعدما ساد اقتراح قبل حصول الاقتراع بأن يحصل الاحتفال من خلال مهرجان شعبي واسع.
وفي جبل لبنان كانت المعايير مختلفة باستثناء دير القمر، ذلك أنّ رئيس حزب «الوطنيين الأحرار» النائب دوري شمعون شكا من معركة إلغاء تحصل ضدّه في معقله أو حتى في البلدة الأخيرة التي يحظى فيها بنفوذ وتأثير لحزبه.
اما في معظم البلدات الكبيرة في جبل لبنان المسيحي، فجاءت تحالفات «القوات اللبنانية» على قاعدة توجيه ضربة لنفود «التيار الوطني الحر» وفي طليعة هذه البلدات جونية والحدث.
وفي اليوم الذي سبق فتح الصناديق، اتصل العماد ميشال عون بجعجع وبحث معه في موضوع بلدية جونية حصراً، متمنّياً عليه تعديل موقف «القوات». وتردّد أنّ جعجع قال إنّه سيرى ما يمكنه فعله لأنه سبق أن أعلن مسؤولو «القوات» في جونيه التزامهم قبل فترة بعيدة.
إثر ذلك قرّر عون رَمي كلّ أوراقه في المعركة والتوجّه مباشرة الى جونية معلناً دعمه الكامل للائحة جوان حبيش. وقد يكون عون قد ارتكب خطأً بخطوته هذه كون نتائج المعركة سترتدّ مباشرة عليه هو، وسينعكس ذلك على المعركة الرئاسية.
أمس كانت ماكينة «التيار الوطني الحر» تراقب الاندفاع الكامل لماكينة «القوات اللبنانية» والتي وصلت الى الذروة خصوصاً في جونية والحدث.
البعض يجزم بأنّ مشهد الأمس سيؤثر مباشرة على التفاهم الذي حصل بين الرابية ومعراب، فصمود التحالف في زحلة والأشرفية كان بهدف تصفية القوى الاخرى، اما الاشتباك الانتخابي في جبل لبنان فهو يهدف في وضوح الى سحب البساط من تحت عون واختراق المنطقة التي شكلت معقلاً له طوال السنوات العشر الماضية.
لكن هل إنّ ذلك سيعني الانفصال مجدّداً بين الرابية ومعراب؟
ليس بالضرورة، تجيب أوساط حزبية معيّنة. ذلك أنّ السياسة تقوم على الحسابات والمصالح. صحيحٌ أنّ «الودّ» سقط بينهما لكنّ السلوك السياسي مسألة أُخرى. فعون الذي يضع في أولوية اهتماماته معركة رئاسة الجمهورية وهو خاض الاستحقاق البلدي من هذه الزاوية، لا يزال في حاجة ماسة لدعم جعجع في معركته هذه، على رغم أنّ ما من إشارة في الأُفق حول دنوّ موعد هذا الاستحقاق.
أما على مستوى الانتخابات النيابية، فإنّ النقاشات قائمة في مجلس النواب للاتفاق على قانون جديد يُعتمد في الانتخابات النيابية المقبلة. وعلى رغم كلّ الضجيج الذي يحيط بهذه النقاشات فإنّ القوى السياسية متفقة على عدم وجود مشروع واحد يمكن التفاهم عليه بعد، ما يعني حتى الساعة أنّ القانون الوحيد القائم هو المعتمد حالياً.
في الحسابات، فإنه في حال النجاح باعتماد قانون جديد وفق النسبية، وهو ما ليس متوافراً حتى الآن، فإنّ ذلك سيعني الابتعاد مجدداً بين «التيار» و«القوات» وخوض الانتخابات كلّ بمفرده ووفق تحالفاته. أما في حال بقاء القانون الحالي، فإنّ اللوائح المشتركة بين الطرفين تصبح حاجة مشتركة لكلٍّ منهما.
وحتى في هذه الحال، فإنّ عقبات كبيرة ظهرت أخيراً. فالعلاقة بين «القوات» وتيار «المستقبل» هي في أسوأ مراحلها، والخلاف بين الساحتين هو أقرب الى حال الطلاق، في وقت كثر الحديث عن «الغدر» واتهامات أُخرى مشابهة. أما على مستوى «حزب الله» فظهرت مؤشرات أكثر وضوحاً.
وعلى رغم نفي جعجع العلني، فإنّ الكواليس السياسية تؤكد طلب «القوات» من رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية فتح قنوات اتصال مع «حزب الله». وأخيراً، وتحديداً بعد اتفاق معراب، شجّع عون، «حزب الله» على التواصل مع معراب.
وقيل إنّ حزب الله المعروف عنه براغماتيته السياسية، أجرى دراسة وافية من كلّ الجوانب لهذا الموضوع ضمن دوائره الضيّقة.
وما عزّز هذا الانطباع عدم إعطاء عون أيّ جواب حيال سعيه هذا، ولكن، ومع انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات وظهور غيوم سود في سماء العلاقة بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، رأى بعض العاملين على الخط بين الطرفين أنّ هناك اشخاصاً يدورون في فلك عون سقطوا في الشرك الذي يحوكه جعجع تحت تأثير «إغراءات» الأهداف الخاصة ولضمان موقعهم في المرحلة المقبلة، إذا ما قرّر عون التقاعد.
وجاء الرّد على لسان الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله شخصياً للدلالة على جدّية الكلام وهو شكل سابقة في تاريخ العلاقة بين الرابية والضاحية الجنوبية.
لكنّ النقطة الأهم جاءت مع إعلان نصرالله أنّ «حزب الله» غير ملزم بتحالفات عون، وأنّ التعاون مع «القوات اللبنانية» لن يحصل لا الأمس ولا اليوم ولا غداً. وكان واضحاً الكلام لجهة أنّ «حزب الله» اتخذ قراره بعدم التعاون مع «القوات اللبنانية» في الانتخابات النيابية.
ما يعني أنّ الغالبية التي يسعى عون لتأمينها لإيصاله الى رئاسة الجمهورية لا تعني تطابقاً بالضرورة مع الغالبية النيابية التي ينظر اليها «حزب الله» الى مجلس النواب المقبل من زاوية التوازنات الإقليمية والسياسية.
ووفق هذه الصورة، بدا أنّ المشهد أصبح شديد التعقيد. فاحتمال إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون الحالي سيضع كثيراً من علامات الاستفهام حول تفاهم عون – جعجع، خصوصاً في دوائر جبيل والمتن الجنوبي وزحلة وجزين حيث الصوت الشيعي راجح، اضافة الى أنّ الصوت السنّي لم يعد ودّياً.
لا بل أكثر فإنّ علامات الاستفهام نفسها تشمل دائرة المتن الشمالي حيث لم يخرج حزب «الطاشناق» عن التفاهم مع «حزب الله»، وهو أعطى إشارات بليغة في الانتخابات البلدية بالتمسك بالعلاقة مع النائب ميشال المر على حساب أيّ علاقة اخرى.
والأهم من كلّ ذلك، أنّ السعي قائم تحضيراً للانتخابات النيابية. وجاء اقتراح رئيس مجلس النواب نبيه برّي حول انتخابات مبكرة جدّياً، لكنّ تيار «المستقبل» فضّل ترك الاستحقاق في مواعيده الدستورية، أي في أيار المقبل بسبب المصاعب التي يعاني منها.
انتخاباتٌ نيابية تبدو صعبة انطلاقاً من القراءة السياسية للانتخابات البلدية، فيما المنطقة تمرّ في أدق مراحلها العسكرية، خصوصاً في سوريا، ولبنان يُحضّر لمرحلة من الضغوط الأميركية الصعبة على «حزب الله».