IMLebanon

«تفاهمات» تتطلّب تفاهمات!

 

يمكن القول إنّ ثلج المسايرات والمجاملات والمساكنة والكلام المغمّس بالعسل المغشوش، قد ذاب فعلاً، وبانَ المرجُ الحقيقيّ للعلاقات بين التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل وبين سائر القوى السياسية.

يقف التيار اليوم، ومعه البلد، على مفترق علاقات مأزومة، ليست من النوع العابر، أو النوع المؤقّت الذي يشبه «سوء تفاهم» أو التباين في الرأي، أو الإشكال الفردي، بل هي أعمق إلى حدّ حفرَت في الجوّ السياسي العام، أسئلة وعلامات استفهام تشكيكية حول السبب والمسبّب والهدف والمستفيد والمتضرّر من تأزيم هذه العلاقات؟

تقرأ في علاقات التيار بسائر الشركاء في البلد؛ قطيعة كاملة مع تيار المردة وحزب الكتائب وشخصيات أساسية في الشارع المسيحي. ونفوراً مع الحزب القومي، وطلاقاً مع وليد جنبلاط، وكذلك مع مَن كانوا في صفّ الحلفاء في زمن 8 و14 آذار، وهوّةً عميقة جداً مع حركة أمل لم يُضيّق منها اللقاء الفولكلوري لـ»الأحبّة» في الحدث، ولم تلغِ الاختلافات العميقة والجذرية بينهما في السياسة وعلى مستوى الأداء في السلطة.

وأمّا مع «القوات اللبنانية» فالعلاقة رخوة، بعدما اصطدم «تفاهم معراب» بمحطات لمسَت فيها «القوات» بعداً استئثارياً واستعلائياً، خصوصاً في ملف التعيينات والمحاصصات، والاستهداف المباشر لوزارة الصحة، خلال مرحلة الصفقات، ومعلوم أنّ القوات خاضت معركة شرسة بمواجهة صفقة بواخر الكهرباء. وخلاصة الأمر هنا، أنّ الطرفين متموضعان في مرحلة ما قبل «تفاهم معراب» لكنّهما يشتركان في عمليات تجميلٍ ومكيَجةٍ للتفاهم، للإبقاء على شعرة الوصل قائمةً.

الأساس في هذا السياق، علاقة التيار بـ»حزب الله». فالطرفان لا يستطيعان نكرانَ أنّ هناك أزمةً بينهما لا يُظهّرانها إلى العلن. ووصَل الأمر ببعض العارفين بخفاياها إلى حد القول إنّ هناك خللاً استراتيجياً في هذه العلاقة. وأصبحت، في عمقها، بحاجة إلى إعادة مراجعة.

في أجواء الذكرى 12 لتفاهم مار مخايل ثمَّة محاولة مشتركة لإنعاش هذا التفاهم، وبصرفِ النظر عن كيفية ترجمةِ هذه المحاولة باحتفال أو لقاء أو مهرجان أو ما شابَه ذلك، فهل ستتمكّن من إزاحة الغيمة من أجواء الطرفين؟

لقد بدا أنّ أزمة التيار برئاسة باسيل ومِن خلفِهما رئيس الجمهورية، مع الرئيس نبيه بري وحركة «أمل» شكّلت المفتاح لإظهار المكنون من داخل المغارة. وجرى التعبير عن ذلك بسلسلة مآخذ هجومية سجّلها التيار على حليفه «حزب الله»، ليس فقط لعدم مناصرتِه التيار في مواجهة بري وأمل، بل لأنّ الحزب وقفَ مع بري وكان شريكاً له في المواجهة ضد التيار ورئيسِه وما تخلّل ذلك من تحرّكات في الشارع.

هنا تمّ قصفُ «الحليف»، صالونات ومجالس التيار عبّرت عن ضيقٍ واحتقان كبيرين، وتجاذبتها تساؤلات حول التفاهم وجدواه تعكسُ حجمَ الاحتقان والسقف الذي بلغَه: أهكذا يُرَدُّ الجميل؟ ألم يعطِ التيار بورقةِ التفاهم الحزبَ شيئاً، وأخذت هذه الورقة من التيار أشياء؟ ألم يخرج التيار من موقعه حيث كان رأسَ حربة 14 آذار من أجل تطمينِ الشريك الشيعي؟

هل هرَب الشريك العوني عندما حاوَلت حكومة فؤاد السنيورة ومن خلفها أكبرُ دولِ العالم، عزلُ الشيعة؟ ألم يكن شباب التيار آنئذٍ جنباً إلى جنب مع إخوتهم تحت الخيَم وفي الساحات لشهور طوال؟ هل وَجد الشيعة أحداً غيرَ ميشال عون وتياره الى جانبهم عندما اجتمع الكون وتآمرَ الداخل عليهم في حرب تمّوز ٢٠٠٦؟

ألم ينتزع العونيون اللقمة من أفواه أبنائهم ليقسموها مع أبناء الجنوب والضاحية يوم فتِحت بيوت الشرقية لاستقبال النازيحين؟ ألم يضفِ العونيون غطاءً من الوطنية عندما غطّوا سلاحَ المقاومة بثوبٍ مسيحي؟ ألم يَسكت العونيون على جرح «مؤامرة الدوحة» عندما مشى الشيعة بخيار ميشال سليمان بدل ميشال عون؟ ألم يساندكم التيار في قتالكم خارج الحدود؟ ألم يدافع عن المقاومة في جميع مجالس السياسة المحلية والدولية؟

الواضح في موازاة ذلك، هو أنّ «نقزة» الحزب من التيار، لم تبدأ مع اندلاع الأزمة الاخيرة بين التيار وأمل، بل إنّها تمتد لأشهرٍ خلت، وتفاعلت خلال هذه الأزمة، الى حد إجراء اكثر من نقاش داخل أوساط الحزب مع طرح علامات استفهام حول ما سمّاها حزبيون «سقطات» متتالية يعدّدونها كما يلي:

  • إذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً، نجد أنّ السقطة الاولى كانت في ما حكيَ عن تفاهمات سرّية مع تيار المستقبل.
  • السقطة الثانية سجّلت خلال مرحلة إعداد القانون الانتخابي، وما ساد خلالها من أداء لرئيس التيار، كان منفِّراً لقيادة الحزب وجمهوره والحلفاء.
  • السقطة الثالثة، تعطيل بعض التوظيفات والتعيينات لوظائف من فئات رابعة وخامسة لناجحين في امتحانات، وذلك بحجّة عدمِ التوازن الطائفي.
  • السقطة الرابعة، مرسوم الأقدميات، وما تفرّع عنه من أزمة حول وزارة المال وبدء القول تارةً بعدم إسنادها الى شيعي، وتارةً أخرى بعدم إسنادها لحركة أمل أو لوزير يسمّيه الرئيس نبيه بري.
  • السقطة الخامسة، فتح معركة رئاسة المجلس النيابي من الآن، والتسريب عن نوايا لإسقاط الرئيس بري، مع دون تقدير حساسية هذه المسألة ليس عند بري وجمهوره فقط بل عند «حزب الله».
  • السقطة الخامسة، الإساءة المباشرة عبر القناة التلفزيونية المحسوبة على التيار للأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، في ما خصّ موقفَه من عرض فيلم «ذا بوست».
  • السقطة السادسة، الحملات الإعلامية التي تمّ تنظيمُها في موضوع الجريمة الثقافية والعودة الى الوصاية السورية.
  • السقطة السابعة، تسجيل البترون المسرَّب الذي يتناول فيه باسيل الرئيس بري بكلام جارح لم يستطع «حزب الله» أن يمرّره، فجاء ببيانٍ شديد اللهجة يرفض فيه التعرّضَ للرئيس بري من أيّ كان.
  • السقطة الثامنة، سقطة الميادين، وما قاله باسيل فيها عن إسرائيل وعدم الخلاف الايديولوجي معها، وعن حقّها بالوجود وبالحماية. هذا الكلام لم يُبلع داخل الحزب.

السقطة التاسعة، سقطة الماغازين، وما قاله فيها باسيل عن «حزب الله» وخياراته في الموضوع الداخلي، التي لا تصبّ في مصلحة بناء الدولة في لبنان، وكذلك إشارته الى «أنّ وثيقة التفاهم تتضمّن بنداً أساسياً هو بناء الدولة، ونأسف لأنّ هذا البند غير مطبّق لاعتبارات استراتيجية». وهذه السقطة سقطت ثقيلةً على الحزب ايضاً.

يقولون في الحزب إنّه أمام مسلسل السقطات هذا، لم يعُد في الإمكان لدى جمهور الحزب وقياداته الحديثُ عن زلّةِ لسان أو ما شابَه ذلك، هناك «نقزة» حقيقية من باسيل. وبالقدر نفسِه هناك حِرص على حلّ الخلاف معه بالحوار والتفاهم.

وبحسب هؤلاء فإنّ ما يجب أن «ينتبهوا» له هو أنّ تفاهم مار مخايل، كانت له انعكاسات إيجابية على الحياة السياسية في لبنان، وأنه بهذا التفاهم أمكنَ إسقاط حكومات، وإعادةُ بناء حكومات، وبموجبه أيضاً جاء العماد عون رئيساً للجمهورية.

خلاصة الكلام هنا، أنّ التفاهم موجود وينبغي الركون إليه دائماً، إلّا أنه ليس شيكاً بلا رصيد، أو شيكا ينتهي اأده في وقتٍ معيّن، هذا التفاهم يجب أن يتغذى دائماً بالرصيد، ما يعني انّ التفاهم في حاجة الى «تِعباية» رصيد، ولا يمكن أبداً أن تكون هذه «التعباية» من طرفٍ واحد».

ما يجب أن يؤخَذ في الاعتبار ايضاً، والكلام للحزبيين، هو انّه في كلّ شيء هناك حدود، ولكلّ شيء حدود، وباسيل يعرف وكذلك الرئيس عون انّ التحالف مع أمل هو تحالف وجودي، أي تحالف الروح والروح، وإنْ حصَل خلاف بين أمل والتيار نحاول ان نعالجه، وإن لم نتمكّن من ذلك فـ»حزب الله» الى جانب أمل.

في خلاصة كلام الحزبيّين إشارة بالغةُ الدلالة حول الملف الرئاسي، وفيها نصيحة بالانتباه الى انّ آخِر انتخابات رئاسية صنِع فيها رئيس الجمهورية خارج لبنان كانت في الدوحة في العام 2008، وذلك بفعل المعادلات الداخلية في العام 2016 التي فرَضت رئيساً صنِع في لبنان، هذه المعادلات هي نفسُها ستكون صانعة الرئيس المقبل للجمهورية، هذا ما يجب أن يكون معلوماً في سياق أيّ محاولات لإنشاء علاقات وصداقات وتحالفات خارج الحدود.