Site icon IMLebanon

عوامل غير متوقعة “تمنع” إفلاس لبنان

 

تمتّع لبنان منذ ثلاثة عقود وأكثر، بميزة الاقتراض من الأسواق الداخلية، بما يشبه عملية التمويل الذاتي، وهي وضعية استثنائية بين دول العالم، ساعدت البلد على عدم رهن قراره الى الجهة المُقرِضة. هذه النعمة، ومع اقتراب الكارثة، تبدو نقمةً ولعنةً تزيد في تعقيدات وكلفة الأزمة.

 

يُعتبر لبنان من الدول القليلة في العالم القادرة على تأمين تدفّق الرساميل الى مصارفها من الخارج، رغم أنها دولة طفيلية، تعيش على الاستيراد بنسبة 85%.

 

هذه الميزة استفادت منها الحكومات المتعاقبة، لتمويل العجز السنوي المتراكم في الموازنات، بسهولة وسلاسة وكلفة منخفضة جداً.

 

كما أنّ هذه الميزة هي التي شجّعت الصناديق والمؤسسات الاستثمارية الأجنبية على الاكتتاب، ولو بنسب صغيرة في الدين العام اللبناني، رغم أنّ مردود هذه السندات كان أقل من مردود سندات الدين التي تُصدرها دول لديها التصنيف الائتماني نفسه.

 

والى الكلفة المنخفضة، والسهولة في الحصول على الديون، هناك ميزة الإفلات من الارتهان الى الجهة المُقرِضة، والاضطرار الى تنفيذ رغباتها.

 

كل هذه الميزات في الاقتراض الداخلي، قابلتها سلبيات لا تظهر على حقيقتها سوى عندما يصبح وضعُ دولةٍ ما شبيهاً بوضع الدولة اللبنانية حالياً. ويمكن اختصار السلبيات بنقطتين:

 

أولاً- الاقتراض الداخلي سمح للحكومات بالهدر بلا رقيب أو حسيب، في حين أنّ الاقتراضَ الخارجي غالباً ما يكون مشروطاً بمراقبة المالية العامة للدول، وفرض إجراءات هدفها المُعلن على الأقل، تحاشي إفلاس الدولة لضمان استرداد الأموال.

 

ثانياً- الإفلاس «ممنوع»، على اعتبار أنّ الدول التي تواجه ضغوطات تصل الى حدود يستحيل معها دفع الديون، أو ضمان التمويل لاستمرارية الدولة، يصبح الإفلاس نوعاً من الحلول التي تُعتمد لتصفير الديون، وإعادة الانطلاق لاحقاً في بناء مالية الدولة. صحيح أنّ تصفير الديون لا يتم بسهولة، وتتعرّض الدول المفلسة الى ضغوطات الجهات التي تريد تأمين الحدّ الأدنى من أموالها، لكنّ المبدأ السائد والمتعارَف عليه، أنّ الدول المُقرِضة تضطر في النتيجة إما الى إلغاء ديونها، أو جزء منها، ومساعدة الدولة المفلسة للإقلاع مجدداً.

 

لكن عندما تكون الديون ذاتية، أي من أموال ابناء البلد المودعة في المصارف، تنتفي صفة «الإنقاذ» عن الإفلاس، ويصبح كارثة حقيقية تضرب الدولة وشعبها في وقت واحد، من دون أن تجذب دولاً لها مصلحة في المساعدة لاستعادة جزء من أموالها، أو لرهن أعمال واستثمارات في البلد، تستفيد منها بعد إعادة اطلاق عجلة الاقتصاد في الدولة.

 

بما أنّ لبنان من تلك الدول النادرة التي لا يشكّل الإفلاس مخرجاً قانونياً لها لتجاوز ديونها المتراكمة، وهذه حالة غريبة عجيبة لتحاشي الإفلاس، فهذا يعني أنّ على الحكومة أن تبحث عن مخارج أخرى.

 

في الحالات العادية، ولو كان البحث عن حلول متوسطة المدى متاحاً، لأمكن القول إنّ المعالجات أسهل وأقل كلفة على الناس، وهي تشمل على سبيل المثال لا الحصر: تأهيل الكهرباء لتأمينها 24 ساعة ومن ثمّ رفع التعرفة بعد إلغاء المولدات، للتمكّن من توفير مليارَي دولار سنوياًَ. إجراء إصلاح ضريبي يمنع التهرّب ويؤمّن بين مليار ومليارَي دولار ايضاً. تنفيذ خطة لخفض الاستيراد وزيادة التصدير بما ينعكس ايرادات اضافية على الخزينة. خفض حجم القطاع العام من خلال مشاريع خصخصة.

 

كل هذه الحلول نماذج لمعالجات يمكن اتّباعها لإعادة القطار الى السكة، والشروع بعدها في عملية تأهيل الوضع الاقتصادي والمالي.

 

لكن مع الاسف، وصلت الامور في لبنان الى حدّ أنّ هذه المعالجات قد لا تحول دون الوصول الى الهاوية، لأنها تحتاج الى فترة زمنية قد تكون أطول من الفترة التي يمكن للبنان أن يصمد خلالها في انتظار أن تأتي ثمارها. بالاضافة طبعاً الى أنها معالجات مشكوك في تنفيذها، على اعتبار أنها معالجات معروفة ويطالب بها الصغير والكبير في الدولة كل يوم، وحتى الآن لا بوادر أمل في أنها قد تُنفّذ.

 

في هذا الوضع، هناك لائحة بإجراءات سريعة تتلاءم مع التوقيت (timing) وهو عنصر اساسي في الإنقاذ. لكنها معالجات قاسية في حق الناس، وتعني باختصار أنّ اللبنانيين الذين تعرّضوا للنهب والسرقة وإهمال أموالهم ومصالحهم من قبل القابضين على السلطة السياسية منذ عقود، عليهم أن يدفعوا ثمن جريمة ارتُكبت في حقهم لتحاشي الوصول الى الإفلاس وفقدان القسم المتبقي من أموالهم.

 

الاجراءات التي تمنع الوصول الى الإفلاس إجراءات طارئة وليست عادية ويمكن إيراد نماذج منها:

 

أولاً- رفع الدعم عن كل السلع الاستهلاكية والخدمات التي تقدّمها الدولة. (كهرباء، تبغ، قمح، شمندر…)، وهذا يعني رفع تعرفة الكهرباء 3 أضعاف، منذ الآن، وعدم انتظار تأمينها 24 ساعة، لرفع التعرفة.

 

ثانياً- إلغاء هيئات وصناديق ومجالس تكلّف الخزينة اموالاً طائلة بلا فائدة توازي هذا الإنفاق. والإلغاء والتصفية ينبغي إنجازُهما في غضون أشهر فقط.

 

ثالثاً – خفض مستوى الرواتب في القطاع العام عبر إلغاء السلسلة، أو من خلال خفض الرواتب بنسبة تراوح بين 20 و 30 في المئة، وتوحيد نظام التقاعد لإلغاء امتيازات غير منطقية يحصل عليها قسم من الموظفين.

 

رابعاً – فرض ضرائب غير مباشرة على سلع اساسية، مثل زيادة 4 دولارات على كل صفيحة بنزين، وفرض رسوم اضافية على الكحول والتبغ والسكر، وهي مواد مضرة للصحة حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية.

 

خامساً – رفع الضريبة على القيمة المضافة الى 15%.

 

هذه نماذج من إجراءات يمكن اتّخاذُها فوراً لوقف الاندفاعة نحو الهاوية، وهي إجراءات توفّر حوالى 5 مليارت دولار سنوياً، وكافية لوقف الانهيار.

 

لكنها في الحقيقة إجراءات ظالمة في حقّ الناس، لأنّ الكارثة المالية لم تكن نتيجة تعرّض البلد الى كارثة طبيعية أو حرب مدمّرة، لكي يشعر المواطن بأنه مُلزم بهذا النوع من التضحية لإنقاذ دولته ونفسه، بل تأتي نتيجة أعمال سرقة منظّمة وإهمال يعكس غياب الوعي والضمير لدى مَن تسلّم إدارة البلاد. ومن البديهي أنّ مَن سرق وأهمل لا يجرؤ على اتّخاذ مثل هذه الإجراءات.