Site icon IMLebanon

الفاجر..

لو أرجأ فلاديمير بوتين كلامه عن تركيا أمس إلى ما بعد لقاء وزير خارجيته سيرغي لافروف بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو في بلغراد، لربما كان لكلامه وقعٌ آخر، ولربما حمل بعض الصدقية باعتباره استمراراً لغضب الذات الوطنية الروسية إزاء إهانة «لا تُغتفر» وجّهتها إليها، النخبة التركية التي «أخذ الله عقلها»!

نبرة التصعيد في موسكو لا تتناسب مع معنى اللقاء المعجزة في بلغراد، بل تتناقض، وتؤكد في مكان ما، أن الازدواجية نمط منهجي في سياسة بوتين، ويعتمدها بوضوح غريب تماماً مثل أدائه إزاء النكبة السورية: يحكي عن محاربة الإرهاب الداعشي لكنه لا يقصف إلاّ أعداء هذا الإرهاب. ويحكي عن حل سياسي لكنه لا يفعل إلا الإيغال في محاولة فرض معادلة عسكرية كاسحة. ويسرّب خبريات وإشارات عن واقعيته عندما يطلب من بشار الأسد الاستعداد للحظة الرحيل لكنه يتصرّف (ويتحدث) على أساس أن الثورة على الأسد أساساً، لم تكن في محلّها، وان هذا «باقٍ وأعمار الشعوب قصار»!

من استمع إلى كلامه بالأمس خرج بانطباع مفاده أن القيامة ستقوم بين بلاده والأتراك بسب إسقاط طائرة السوخوي.. وأن الإجراءات «العقابية» لن تقتصر على بعض النواحي التجارية والاقتصادية وإنما ستتطور باتجاهات أخرى (؟؟) لكن بعد ساعات معدودات فقط، أعطى اللقاء في بلغراد بين وزيري خارجية البلدين إشارات معاكسة تدلّ على إرادة مشتركة بحصر هذه العاصفة في فنجان وعدم السماح بتطورها باتجاهات متبادلة، قاسية وغير مبررة!

وكثيرون لاحظوا بالأمس، أن بوتين «الغاضب» لا يزال غاضباً، لكنه وصل إلى رتبة الفاجر الكامل المواصفات، الذي ما كان ينتظر إلا حجّة من نوع إسقاط طائرة «السوخوي» كي يبدأ الولولة والصراخ.. وذلك شبيه بما يحصل أحياناً في الدول المحترمة، بحيث إن ركلة من قدم شرطي توجّه إلى مجرم سفّاح اعتقل بالجرم المشهود، قد تُنسي العالم ضحايا هذا المجرم وتشغلهم بالركلة التي تلقاها!

وهذا هو حال بوتين هذه الأيام: يملأ الدنيا زعيقاً على إسقاط طائرة من طائراته ومقتل الطيار وأحد جنود وحدة إنقاذ روسية، ويتغافل عن عشرات بل مئات الآلاف من ضحايا تابِعِهِ الأسد ومئات من الضحايا المدنيين السوريين الذين سقطوا بغارات «عاصفة السوخوي».. مثلما يتغافل عن أن أجندته في سوريا تجعله شريكاً رئيسياً في نكبتها. ومثلما يتغافل عن أن ورقة محاربة الإرهاب احترقت فور انطلاقها، وهو الذي ضُبط بالجرم المشهود لجهة كون ما بين خمسة وعشرة في المئة فقط من عمليات قواته في سوريا تستهدف «داعش» ليس إلا.. مثلما يتغافل عن حقائق موثّقة تؤكد العلاقة العضوية بين تابعِهِ الأسد وذلك الـ«داعش»، تأسيساً ورعاية وتبادل خدمات.. مثلما توثّق أن الزبون الأول لنفط «داعش» ليس سوى الأسد وعصبته..

لكنه الفاجر الذي لا يرعوي ولا يرتد، ويصيب الآخرين بالحيرة إزاء قدرته على كل هذا الفجور! الذي وصل معه إلى حدّ التشبّه بالنبي موسى كليم الله!