ينام المسؤولون اللبنانيون على «حرير» الوعدين الصيني والروسي بـ»الفيتو» لضمان التجديد لقوات «اليونيفيل»، من دون المسّ بقواعد الإشتباك التي تحكمها. وعدا عن ذلك، هناك من يطمئن الى انّ التجديد حاصل، رغم الضجيج الذي يرافق جلسة مجلس الأمن للبتّ به. فالمنطقة لا تتحمّل «هزّة» جديدة تنعكس على موجة التطبيع مع اسرائيل، ولبنان لم يخرج بعد من «نكبة المرفأ» ولم تُفك رموزها بعد. فما الذي يقود الى هذه القراءة؟
على مسافة ايام قليلة من قرار التمديد للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان («اليونيفيل») لسنة إضافية، تراقب المراجع السياسية والديبلوماسية تطورات المرحلة بدقّة، في وقت اضطرت للعودة الى لبنان بعد «نكبة المرفأ» وتداعياتها على الساحة اللبنانية، وما نتج منها من أزمة حكومية، عمّقت سلسلة الأزمات التي تعيشها البلاد منذ اشهر عدة، على رغم من الفصل الذي يقيمه المجتمع الدولي، بين ما تركته النكبة من خسائر فادحة ناء تحتها الشعب اللبناني، وبين الازمة التي كانت تعيشها البلاد بوجوهها السياسية والاقتصادية والنقدية وفقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، ما لم تغيّر في اسلوبها لمواجهة هذه الاستحقاقات على خطورتها.
فغياب الدولة عن مسرح النكبة، وتقدّم المبادرات الخارجية الاقليمية والدولية، وتلك التي قادها المجتمع المدني، دفعا الدول الكبرى ومعها المؤسسات الاممية والدولية الى التدخّل، متجاوزة الجهود الحكومية التي لم تحقق بعد اي إنجاز، لا في التحقيق الاداري والامني القائم، ولا في طمأنة المنكوبين الى انّ الدولة ومؤسساتها الى جانبهم، في ظلّ الاستثمار السياسي لما حصل، الى حدّ اعتبار البعض انّها «فرصة» لاستعادة السلطة انفاسها، وفك العزلة السياسية والديبلوماسية التي تعيشها من قبل.
وعدا عن ذلك، لم تقدّم الدولة اياً من الأمثلة الكافية لاعتبار ما حصل «نكبة وطنية» وليست «نكبة محلية» تعني من تضرّر منها، وكأنّ المنطقة التي دُمّرت ودفعت ثمناً غالياً، ذُهل له العالم، من حياة سكانها وروادها بين ضحايا وجرحى ودمار شامل، معزولة عن محيطها. فبعض المبادرات الفردية الخجولة التي قامت بها بلديات بعيدة عن بيروت، حجبت التقصير الفادح لبلديتها وعجزها عن القيام بواجباتها الكبيرة تجاه المنطقة.
وبمعزل عن التحقيقات الجارية ببطء، لكشف ما أمكن من الحقائق السطحية المتصلة بما حصل واسبابه وتحديد هوية وادوار المسببين به من دون الوصول الى مرحلة كشف اسراره، فرض موعد التمديد للقوات الدولية «اليونيفيل» نفسه، متقدّماً على الإستحقاقات الاخرى الحكومية والامنية والسياسية، بالصيغة المعتمدة منذ صدور القرار 1701 في 12 آب 2006 في اسوأ الظروف التي تعيشها السلطة. فالحركة الديبلوماسية التي قادتها وزارة الخارجية في الساعات الماضية لن تقدّم ولن تؤخّر في ما هو متوقع. فقد دلّت المواقف التي سبقتها، الى انّ المجتمع الدولي لن يترك الجنوب اللبناني معرّضاً لأي هزة إضافية، ولن يسمح بتغييرات تهدّد النسبة المحققة من الاستقرار في المرحلة الراهنة.
ولذلك، فقد سجّل السفراء ممثلو الدول الخمس ذات العضوية الدائمة، ملاحظاتهم على القراءة اللبنانية، الداعية الى التمديد لهذه القوات من دون المسّ بتمويلها وعدّتها وعديدها وقواعد الإشتباك المعتمدة لديها منذ اربعة عشر عاماً. ولم يسجل اي سفير ملاحظة لم تكن متوقعة لدى المسؤولين اللبنانيين وعموم الشعب اللبناني. فاطمأنوا الى استعدادات كل من بكين وموسكو، لممارسة حق النقض (الفيتو) الذي قد لا يحتاجه احد ان اصرّت واشنطن على ملاحظاتها والتعديلات المقترحة على مهماتها وطرق تمويلها، فيما بقيت باريس ولندن على ملاحظاتهما وتحذيراتهما، من استمرار الخروق لما يقول به القرار 1701 وضرورة ان تساهم وحدات الجيش والقوى العسكرية والأمنية الشرعية في ضبط الوضع الأمني جنوباً، ولجم ظهور السلاح غير الشرعي وتخزينه في المنطقة المحظورة.
وعليه، لم يكن خافياً على احد، تفرّد واشنطن بممارسة الضغوط بسقوفها العالية، مع ما جاءت به من تحذيرات، لمنع حصول ما يحول دون قيام القوات الدولية بمهماتها المتقدّمة، الضامنة لبسط سلطة الدولة الشرعية لوحدها على ارض الجنوب ومنع المظاهر المسلحة. ولم يكن صعباً عليها ان تقدّم امثلة عدة عن مخازن الأسلحة المخفية – المرئية في الجنوب، ولا الخروقات التي قام بها «حزب الله» في اكثر من منطقة حدودية على طول الخط الأزرق امتداداً الى ما كان يُعرف بالقطاع الساحلي الى الشرقي ومثلث الحدود اللبنانية – السورية – الفلسطينية المحتلة في تلال كفرشوبا وشبعا والغجر. تمهيداً للتفرّغ الى مهمة ترسيم الحدود البحرية والبرية، والتي ستُطرح قريباً على بساط البحث، لمجرد وصول مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر قريباً الى بيروت.
وامام خريطة المواقف الدولية المؤثرة في قرار التمديد، تتوقف المراجع الديبلوماسية والسياسية امام سلسلة من الملاحظات الأخرى، التي يمكن ان يستفيد منها لبنان لعبور مرحلة التمديد كما يريدها. فتقرأ جملة مؤشرات تمنع إعادة فتح «الجرح النازف» في الجنوب، وتؤجّل العملية الجراحية النهائية لختمه الى امد مستقبلي. ومن هذه المؤشرات:
– ضرورة عبور المرحلة التي تتوسع فيها اسرائيل بعمليات التطبيع القائمة بينها وبين بعض الدول العربية الخليجية والافريقية في هدوء. بعدما انطلقت بنسختها الجديدة من الإتفاقية مع دولة الامارات العربية المتحدة، ومشروع الاتفاقية الثانية المرتقبة مع السودان وربما البحرين او عمان في المرحلتين الثالثة والرابعة.
– عدم القدرة على محاسبة السلطة اللبنانية الحالية التي تعاني ما فيه الكفاية من الازمات الداخلية، والتي تحول دون القيام بأي مبادرة بحجم تغيير الوضع في الجنوب، وتحديداً بعدما زادته «نكبة بيروت» من مآس، في مرحلة تحتاج خلالها السلطة الى كل أنواع الاوكسيجين للخروج من غرفة العناية الفائقة ومنعاً من الانهيار الشامل.
– لا يمكن واشنطن وتل ابيب التلاعب بالمناطق الحساسة في العالم، فلكل منهما ظروفها. الأولى تستعد لدخول مدار الإنتخابات الرئاسية، ويحتاج ساكن البيت الابيض الرئيس دونالد ترامب للبقاء فيه لولاية ثانية، الى مزيد من النجاحات في السياسة الخارجية، للتعويض عمّا يعانيه في الداخل وما فقده من فشل في مبادرته الاولى المتمثلة بـ «صفقة القرن»، باللجوء الى الخطط البديلة الجاري تنفيذها بالتقسيط مع الدول التي كانت تستهدفها، وتأجيل الاستحقاقات الفلسطينية – الإسرائيلية الداخلية، التي كانت تهدّد وجه اميركا في المنطقة، ولتنزع عنها صورة الوسيط النزيه في عملية السلام، بتأجيل مصادرة مزيد من الاراضي الفلسطينية، التي تهدّد وعدها بمشروع الدولة الفلسطينية بأقل مقوماتها.
وعليه، لا يمكن الفصل بين هذه القراءات وما افرزته من معطيات، وما هو متوقع. فالحراك الدولي في اتجاه لبنان اوحى باهتمام مقبول وضامن بحدّه الادنى. فلا ننسى، انّ زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون توجّت هذا الحراك، لترسم بداية خريطة الطريق الى التمديد للقوات الدولية، في ظروف قد لا تكون الفضلى، ولكنها في ظلّ المعطيات الحالية تبقى كافية لعبور المرحلة بأقل الخسائر، للتفرّغ الى المهمات الأخرى الشاقة والمتعددة.
فهل سينجح اللبنانيون في مواجهتها؟ وهل يمكن توقّع ما هو ايجابي ومن ابواب فرج من بعدها؟