ما من شك بأنّ السؤال الاساسي الذي ساد إثر حادثة العاقبية في جنوب لبنان ما اذا كان ثمة رسائل سياسية وسط الدماء التي سقطت، في اول حادثة من نوعها منذ زمن طويل. والمقصود هنا رسائل سياسية ليس فقط من «حزب الله» بل ايضاً من قوات الطوارئ الدولية او جهة خارجية تقف خلفها.
منذ أسابيع معدودة كان مجلس الامن المنعقد في نيويورك في جلسته الدورية العادية يناقش التقارير المرفوعة امامه حول مهام وعمل قوات الطوارئ في جنوب لبنان، وجاءت النتيجة مرضية تماماً لدرجة انه جرى تصنيف عمل قوات «اليونيفل» كأفضل أداء بالمقارنة مع عمل قوات الامم المتحدة في مختلف أنحاء العالم.
لكن حادثة العاقبية جاءت بنتائجها الدموية لتبدّد هذا المناخ خصوصاً ان الحادثة جاءت بعد قرار التجديد الاخير لقوات اليونيفل، والذي تضمّن تعديلاً في مهام عملها، بالسماح لقواتها بالقيام بالدوريات والتحرك منفردة ومن دون التنسيق مع الجيش اللبناني. ولكن وبعد الضجة التي أثيرت، أبلغ قائد قوات الطوارئ الدولية المراجع الرسمية وقيادة الجيش بأن لا شيء سيتغيّر، وسيستمر عمل قوات اليونيفل وفق السلوك نفسه الذي كان قائماً سابقاً اي من خلال التنسيق المسبق مع الجيش اللبناني.
مسألة ثانية لا بد من أخذها في عين الاعتبار ايضاً وهي ان الحادثة حصلت ايضا على مسافة زمنية غير بعيدة من التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية.
وانطلاقاً مما سبق طُرح السؤال الاول ما اذا كان المسار الذي سلكته قوات الطوارئ والتعديل الذي حصل كان مقصوداً ويُخفي رسالة ما.
في الواقع حتى الساعة لم يستطع التحقيق القائم من معرفة سبب انعطاف السيارة عن المسار المحدد لها ودخولها في منطقة خارجة عن مهام قوات اليونيفل. اولاً لأن الرعاية الصحية لا تسمح بعد بأي استجوابات، بانتظار تحسن احوال الجنود الصحية وهو من المفترض ان يحصل مطلع هذا الاسبوع. وثانياً لأنّ سائق السيارة وهو المفروض ان يكون صاحب القرار بتحديد مسار الطريق قد قتل ما يصعّب المهمة. رغم ذلك، فإنّ الترجيحات والاستنتاجات المنطقية تذهب باتجاه حصول خطأ في المسار اكثر منه تعديل مقصود في اتجاه الطريق. ذلك انّ القوة الايرلندية والتي تتبع نظاماً عسكرياً صارماً ليس لديها علاقات تواصل جيدة مع الاسرائيليين، لا بل على العكس.
كذلك فإنّ القوة الايرلندية والتي تعتبر احدى أقدم المجموعات العسكرية المنضوية في قوات اليونيفل باتت، وبسبب خبرتها الطويلة، تدرك جيداً طبيعة الواقع الصعب والمُتشابك في جنوب لبنان. لذلك لم تسجل طوال مدة عملها الطويلة في الجنوب اي احداث امنية فعلية، وهذا بخلاف المجموعات العسكرية الاخرى والتي كانت تحصل معها احتكاكات ومواجهات، مثل القوات الفرنسية والايطالية وحتى الاسبانية.
واستتباعاً، فإن احتمالات وجود خلفيات سياسية تبدو ضعيفة ولكن حسم الجواب يبقى بانتظار انتهاء التحقيقات.
اما في الاتجاه المعاكس او ما اعتبره البعض رسائل من «حزب الله» على خلفية اطلاق النار وسقوط الدماء، فإنّ التحقيقات الجارية لا تميل لاعتبار ما حصل وكأنه خاضع لقرار او تخطيط مُسبق، ما يُضعف احتمالات وجود رسائل سياسية مبيتة، إلا اذا ظهرت معطيات اخرى خلال التحقيقات، والتي ما تزال في بداياتها.
وتقرير الطبيب الشرعي الذي رفع يوم السبت الماضي، أظهَر بوضوح بأنّ الرصاصتين اللتين أدّتا الى مقتل الجندي الايرلندي مصدرهما من خارج السيارة، لا من داخلها. وبالتالي، فإن السيارة التي كان يستقلها الجنود الايرلنديون الاربعة والتي هي مصفّحة ظهرت عليها آثار 7 الى 8 رصاصات لم تنجح باختراق الزجاج وهيكل السيارة. لكن ما حصل انه خلال تَجمهر الناس حول السيارة وحصول اعتداء بالايدي كما كان يحصل في محطات سابقة مشابهة، تعرّض الزجاج الخلفي للسيارة لبعض الصدمات ما أدى الى فتحه. وفي هذه اللحظة وتحت ضغط التوتر، اندفعت السيارة بقوة الى الامام ما ادى الى صدم اثنين من الاشخاص المتجمهرين. وهنا انطلق الرصاص باتجاه السيارة من الخلف وحصل ما حصل.
وهذا السيناريو، في حال صَح، لا يدفع بالاستنتاجات باتجاه وجود تخطيط مسبق وهو ما يعني وجود رسالة سياسية، بل باتجاه ترجيح احتمال توتر الامور على الارض وانفلاتها.
أضف الى ذلك انّ نظرية الكمين لا تلحظ في العادة هذا الكَم من الناس، اولاً بسبب عدم القدرة على التحكم بالعواقب وثانياً لعدم افساح المجال امام هذا العدد من الشهود لاحقاً إبّان التحقيقات.
لكن ثمة اسئلة غامضة ما تزال من دون اجوبة واضحة، وعلى سبيل المثال لماذا جرى استخدام السلاح رغم ان الاحداث السابقة المشابهة كانت تلحظ وجود جموع يطغى عليها الحضور النسائي بعضهم مسلح بعصي لا اكثر، فيما كان العنصر «الشبابي» هو الطاغي هذه المرة؟
والسؤال الثاني، لماذا جرى اطلاق النار على السيارة مباشرة والى داخلها من خلال فجوة الزجاج المفتوح، فيما كان من الممكن استهداف اطارات السيارة لا هيكلها؟
طبعاً إن الاجابة وبشكل حاسم عن هذه الاسئلة سيأخذ بعض الوقت بانتظار انتهاء التحقيقات بشكل كامل. لكن ثمة اسئلة سياسية ايضا وهي تتعلق بالظروف العامة فهل هي فعلاً مؤاتية لتوجيه رسائل من هذا النوع؟
ففي شهر آذار المقبل سيلتئم من جديد مجلس الامن الدولي في اجتماعه العادي لمناقشة الملف اللبناني بشقيه، الوضع في جنوب لبنان والازمة السياسية الحادة التي يئن تحتها.
ومن البديهي الاعتقاد بأن هذه الحادثة، التي أدت الى سقوط أرواح جنود يعملون تحت مظلة الامم المتحدة، ستُرخي بظلالها على النقاشات بين اعضاء مجلس الامن، الى جانب البحث في الملف الرئاسي حيث الاتهامات تتوجه باتجاه «حزب الله» كمعطّل لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية.
أضف الى ذلك الحركة الدولية التي ستتصاعد مع بداية العام المقبل للوصول الى تسوية سياسية تسمح بانتخاب رئيس جديد للجمهورية واستتباعاً سلطة جديدة وادارة حكم جديدة.
ولا شك ان «حزب الله» سيتضرر سياسياً بعض الشيء، خصوصا ان الظروف السياسية الدولية ملائمة لأي توظيف سياسي.
وهو ما يعطي اشارة اضافية باستبعاد فرضية الحادث المُخطّط له او المدبّر. ورغم ذلك، فإنه حتى لو حسمت التحقيقات الجارية في نهاية الامر بأن ما حصل كان نتيجة تراكم الاخطاء، إلا أن ذلك لن يمنع ان يسجل «حزب الله» خسائر.
وعلى سبيل المثال فإن لبنان الذي ينتظر جرعات إنعاش اقتصادية خصوصا من جانب صندوق النقد الدولي والسعودية، لن يكون بمنأى عن التداعيات السياسية للحادثة. ذلك ان السعودية كانت قد ابلغت موقفها حيال مساعدة لبنان الى العاصمة الفرنسية بقولها إنّ مَد يد المساعدة الاقتصادية للبنان يخضع لشروط لا يمكن المساومة حيالها. كمثل خشية الرياض ان يذهب قسم من الاموال «لدعم الحرب في اليمن ضدنا من خلال «حزب الله». والمقصود في الكلام السعودي هنا النفوذ الذي يتمتع به «حزب الله» داخل الدولة اللبنانية.
لذلك كان مفهوماً مُبادرة قيادة «حزب الله» بالقيام بحركة استيعابية لما حصل، حيث تسجل للمرة الاولى تواصل رسمي وعلني بين مسؤول «حزب الله» وفيق صفا وقائد قوات الطوارئ الدولية، اضافة الى حملة اعلامية تؤكد على فرضية «الخطأ» لا فرضية وجود قرار بتوجيه الرسائل.