انقسمت الآراء الداخلية حول تقويم قرار التجديد لقوات «اليونيفيل» الصادر قبل أيام عن مجلس الأمن الدولي، عقب مخاض ديبلوماسي عسير… فما هي قصة ولادة هذا القرار؟
اختلفت المواقف من قرار التجديد تبعاً لزاوية الرؤية، البعض اعتبره مخيّباً للآمال وهزيمة للدولة وديبلوماسيتها، كونه كرّس حرّية الحركة للقوات الدولية بصورة مستقلّة من دون أخذ إذن مسبق، وأعطاها حق تنفيذ دوريات غير معلنة، بينما وجد فيه البعض الآخر إنجازاً، في اعتباره حقّق مكسباً للبنان عبر إضافة عبارة «التنسيق مع الحكومة اللبنانية»، التي كانت قد شُطبت من صيغة العام الماضي، وبالتالي يشدّد أصحاب هذا الرأي على انّ المطلوب النظر إلى الجانب المليء من الكوب والالتفات إلى انّ القرار الاخير هو أفضل بالمقارنة مع ذاك الذي صدر عام 2022 تحديداً.
ولعلّ ما ينبغي تثبيته في هذا المجال، هو انّ قرار العام الماضي يرقى الى مستوى «الجريمة والخطيئة»، وفق مصادر واسعة الاطلاع، لأنّه خرج عن إطار الفصل السادس وأصبح تحت سقف الفصل السابع المقنّع، بعدما أسقط مبدأ التنسيق مع الحكومة اللبنانية وأطلق يد «اليونيفيل» من غير ضوابط، وإن تكن حكمة قيادتها قد غلّبت الواقعية على جنوح المتحمسين في نيويورك، فاستمرت في تنسيق تحرّكاتها على الأرض مع الجيش وبقيت الصلاحيات المتفلتة حبراً على ورق.
بهذا المعنى، فإنّ الفريق المفاوض اللبناني و«حزب الله» ارتكزا في المعركة الديبلوماسية التي خيضت أخيراً من بيروت إلى نيويورك على قاعدة التخفيف من الأضرار التي نتجت من قرار العام 2022، والدفع نحو إعادته الى حظيرة الفصل السادس، مع المعرفة المسبقة بأنّه يستحيل ان يحصل لبنان على كل ما يريده، اي العودة كلياً إلى ما قبل 2022، في ظلّ التركيبة الحالية لمجلس الأمن. ولكن حتى ضمن هذه الحدود، لم تكن المهمّة سهلة في النظر إلى توازنات مجلس الأمن من جهة، وإلى التمايزات داخل الفريق المفاوض نفسه.
في هذه الأثناء، كان الخط الساخن مفتوحاً طوال الوقت بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والمعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» الحاج حسين الخليل، فيما تولّى مسؤول العلاقات الدولية في الحزب عمار الموسوي وفريق عمله، التواصل مع عدد من سفراء الدول المؤثرة في مجلس الأمن والمعتمدين في بيروت، ومن بينهم سفراء روسيا والصين وفرنسا والبرازيل واليابان وآخرون، لتسويق التعديلات اللبنانية على المسودة الفرنسية، وأهمها إضافة جملة «التنسيق مع الحكومة اللبنانية» استناداً الى اتفاقية «وضع القوات» المعروفة باتفاقية المقر (صوفا) التي وُلدت عام 1995 وأقرّها مجلس النواب عام 1996، وهي تنظّم بالتفصيل العلاقة بين «اليونيفيل» والدولة اللبنانية.
وكان الطرح الأول الذي عُرض على لبنان يقضي باعتماد معادلة «التنسيق عند الاقتضاء»، الاّ انّها رُفضت، فجرى تعديلها لتصبح كالآتي: «نقدّر إيجابياً التنسيق مع الحكومة»، لكن هذه التوليفة لم تمرّ أيضاً.
وفيما بعث ميقاتي رسالتين إلى الامين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريتش والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون شارحاً الموقف الرسمي اللبناني وملاحظاته، عُلم انّ حسين خليل كان مواكباً للمفاوضات بكل تفاصيلها ومراحلها.
وقد تواصل الحزب أيضاً مع وزير الخارجية عبدالله بوحبيب، الذي تنفي اوساطه ان يكون قد تعرّض لضغط او تهديد من جانب السفيرة الأميركية دوروثي شيا في شأن مستقبله الشخصي، انطلاقاً من انّه يحمل الجنسية الأميركية.
وتعتبر اوساط بوحبيب، انّ ما تحقق في نيويورك هو أفضل الممكن قياساً الى الظروف المحيطة، «إذ لا وجود لرئيس جمهورية ولا لحكومة أصيلة، والولايات المتحدة هي صاحبة النفوذ الأقوى في مجلس الأمن وممثل المجموعة العربية داخل المجلس لم يكن إلى جانب الطرح اللبناني».
وفيما يرى المعترضون انّه كان يُفترض بوزير الخارجية التشدّد اكثر في موقفه، وامتلاك شجاعة أكبر في مقارعة الاميركيين وحلفائهم داخل المنظمة الدولية، تؤكّد اوساطه اقتناعه بأنّه أدّى واجبه ودوره كاملاً، وأنّ القرار حفظ ماء وجه جميع الأطراف، «وهذا في حدّ ذاته يشّكل انجازاً بالمقارنة مع اختلال موازين القوى الديبلوماسية في أروقة مجلس الأمن لمصلحة واشنطن واصدقائها».
وخلال الأخذ والردّ في المفاوضات الصعبة، هدّد بوحبيب بسحب طلب التجديد لقوات «اليونيفيل»، فيما نُصح أيضاً باستخدام سلاح آخر يتمثل في التلميح الى إمكان دعوة روسيا إلى استخدام حق النقض «الفيتو» لإسقاط اي قرار لا يراعي المصالح اللبنانية، وهو امر لم يستسغه كثيراً بوحبيب ربطاً بفرضية انّ موسكو ستطلب حينها من بيروت ان تسحب هي رسالة التجديد بدل ان تحضّ روسيا على استخدام «الفيتو» وتحمّل مسؤولية فرط قوات «اليونيفيل».
اما فرنسا فقد تولّت بصفتها «حاملة القلم» في مجلس الأمن محاولة تدوير الزوايا، وسعت الى تضمين المسودة ما يرضي جميع الجهات في آن واحد، الأمر الذي يفسّر اشتمال الصيغة النهائية على تناقضات واضحة ومتعمّدة، إذ حافظت على النص الذي يعطي «اليونيفيل» حرّية الحركة من دون إذن مسبق، ويمنحها حق تنفيذ مهمّاتها بصورة مستقلة، ولكنها ضمّت اليه في الوقت نفسه المطلب اللبناني المتصل بالتنسيق مع الحكومة.
هذه الخلطة المركّبة سمحت لكل طرف بأن يفسّر القرار كما يحلو له، وأن يأخذ منه ما يعجبه. وبالنسبة الى لبنان تحديداً، فإنّ مبدأ التنسيق بات مرجعية القرار المعدل وناظم إيقاعه، على الورق كما على الأرض.
ويبدو انّ الموقف الفرنسي المتفهم نسبياً، استند الى حسابات براغماتية تلحظ موازين القوى بين «حزب الله» والكيان الاسرائيلي، ووجود جنود فرنسيين في الجنوب ضمن «اليونيفيل» الى جانب المصالح الاقتصادية لباريس، وكلها عوامل تحفّز فرنسا على تأمين الاستقرار في لبنان، خصوصاً في الجنوب. تحت هذا السقف أدارت باريس المساومات في كواليس مجلس الأمن، وخطّت بـ«الحبر الأزرق» القرار المركّب، في انتظار جولة جديدة من المبارزة الديبلوماسية في السنة المقبلة.