Site icon IMLebanon

هكذا تحوّل الجنوب «مستنقعاً» للتناقضات

 

 

قبل ان يتراجع الحديث تدريجاً عنه، شهدت المناقشات التي سبقت وتَلت صدور قرار التمديد لقوات «اليونيفيل» سنة جديدة، جدلاً طويلاً، وبرزت مجموعة من المفارقات التي لا يمكن تجاهلها. وإن لم تأت الادارة الاميركية بأي مبادرة في اتجاه النقاط المختلف عليها منعاً لأي احتكاك، فإنّ الوضع سيستمر على ما هو عليه من دون اي تعديل يُذكر. وعليه، ما الذي يمكن الإشارة اليه من مفارقات؟

بفارق ساعات قليلة تلت صدور قرار مجلس الأمن الدولي بالتمديد لقوات «اليونيفيل» سنة جديدة، والذي حمل الرقم 2695 عصر الخميس الماضي، تلاحقت مواقف مختلف الأطراف المعنية به في الداخل كما في المنطقة والعالم عاكسة اهتماما مستجدا بمهمة هذه القوات ودورها على وقع ما هو قائم من فرز واضح شهده مجلس الأمن بعدما أرجئت جلسات المناقشة حول شكله ومضمونه ثلاث مرات في الساعات الاخيرة الفاصلة عن نهاية ولايتها، امضاها اعضاء المجلس بالبحث في كل نقطة وفاصلة طاولت عبارات أدخلها الجانب الفرنسي كجائزة ترضية للبنان الذي كانت له رغبات جامحة بتعديلات متعددة، عَملَ ما في وسعه لإجرائها شكلاً ومضموناً بلا جدوى.

 

فقد هدفت الحملتان الديبلوماسية والإعلامية التي خاضها لبنان بطريقة مبكرة لتركيز المناقشات على اساس صيغة قرار التمديد للعام 2021 وليس القرار 2650 الصادر عام 2022، والذي اجرى تعديلا جوهريا على مهمات هذه القوات وسمح لها بمزيد من «حرية الحركة» بلا مواكبة الجيش اللبناني إن دعت الحاجة الى ذلك على رغم من تجميد قيادة هذه القوات العمل بهذا التعديل طوال العام الماضي، تداركا للنتائج المترتبة على مواقف «حزب الله». فهو الذي اعتبره مُجحفا بحق لبنان وقد يحول هذه القوات من «قوات حفظ سلام» الى «قوات احتلال» مع ما يمكن ان يؤدي اليه مثل هذا الموقف من احتكاكات محتملة في اي لحظة يقرر فيها الحزب أنها تجاوزت مهماتها. وخصوصاً ان هذه القوات تنظم نحو 420 دورية يومية في نطاق عملها ما بين الخط الأزرق حتى مجرى نهر الليطاني ومن البحر الى مثلث الأراضي اللبنانية والسورية – الفلسطينية المحتلة حيث تبدأ مهمات مراقبي الأمم المتحدة على جبهة الجولان المحتل «الأندوف».

 

ولم يكن لبنان ليكتفي بهذه التعديلات الجوهرية على مهمة «اليونيفيل» لا بل طالبَ بتغيير كثير من المصطلحات التي يمكن ان يتناولها القرار وفق الاستراتيجية الجديدة التي أُقرّت في هذا البلد. وسبق لممثل الجيش اللبناني لدى القوات الدولية العميد منير شحادة ان شرحها للملحقين العسكريين للدول أعضاء مجلس الأمن في جولة نظّمت لهم قبل فترة على طول الخط الأزرق في الجنوب، إن لجهة وقف الحديث عن «النقاط الـ 13» المختلف حولها واعتبارها «مناطق محتلة» من الجانب الاسرائيلي، وشطب أي اشارة الى عبارة «الجانب اللبناني من بلدة الغجر» واستبدالها بـ»سهل الماري»، عدا عن تجميد الحديث عن عملية «ترسيم بري» واستبدالها بعبارة «تصحيح» أو «تحديد» الحدود لصرف النظر في اسرع وقت ممكن عما يسمّى بـ»الخط الازرق» المعتبر خطاً للانسحاب وليس «خطا حدوديا» والعودة الى اعتماد خط الحدود الدولية لعام 1923 الذي يعيد للبنان المساحات المحتلة، وهو الخط المعترف به في الأمم المتحدة منذ ذلك العام والمكرّس في اتفاقية الهدنة عام 1949 بين لبنان والعدو الاسرائيلي وفي أكثر من قرار دولي يعني لبنان.

 

ولما لم تجر الرياح الاممية كما اشتهتها الديبلوماسية اللبنانية وقيادة الجيش، فقد اسقطت الملاحظات الاميركية وتلك التي قادتها دول اخرى في مجلس الامن الدولي، ومنها ممثلة المجموعة العربية في مجلس الأمن الامارات العربية المتحدة، التعديلات الفرنسية التي كانت قد وصلت الى تضمينها في «النسخة الزرقاء» من مشروع القرار عند طرحه للتصويت النهائي. فقد تلاحقت المفارقات ولا سيما منها تلك التي شكلت ادعاءات بالنصر لدى مختلف الأطراف حتى المتنازعة في ما بينها ولو بفوارق محدودة تمّيز بين الممكن والمستحيل على مستوى المعنيين مباشرة بالقرار.

 

وفي الوقت الذي اعتبرت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد ان القرار «ضمن بطريقة متشددة» قدرة أفراد اليونيفيل على تنفيذ مسؤولياتهم بلا أي قيود»، درءاً للمخاوف «المستمرة منذ وقت طويل والتي تتعلق بأفعال بعض الجهات لتقييد حرية حركة المهمة»، قالت مندوبة لبنان لدى الأمم المتحدة جان مراد: «للأسف لا يعكس النص كل هواجسنا» في اشارة واضحة منها لتجاهل المخاوف من أي صدام بين هذه القوات والأهالي بفعل الامر الواقع القائم في الجنوب والخارج على إرادة الحكومة اللبنانية، والتي شكلت لفترة طويلة من «الخصوصيات اللبنانية» التي اعتبرت خارجة على اي قانون او معادلة امنية تقرّ بها قواعد السلوك الواجب احترامها. ولكنها أقرّت في النتيجة بواجب «احترام حرية التنقل» وفي الوقت نفسه بضرورة الاحتفاظ بـ»الضوابط المشار اليها لأسباب عدة»، مشيرة خصوصاً إلى أمن طواقم الأمم المتحدة.

 

تزامناً رحّب الطرف الاسرائيلي الثالث المعني بالقرار على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية بتمديد تفويض القوة الأممية. وقال إن «اليونيفيل تساعد في الحفاظ على الاستقرار في جنوب لبنان». ولذلك اضاف الى ترحيبه دعوة للمجتمع الدولي الى «تبنّي موقف صارم في مواجهة محاولات منظمة «حزب الله الإرهابية ممارسة الاستفزاز ومحاولة التسبب بتصعيد» للعنف. على رغم من معرفته بأن شيئاً لم يتغير في الجنوب وان المواجهة التي على تل أبيب خوضها لا تتصل بمهمات القوة الدولية بعد ان أدت خروقاته واعتداءاته قبل القرار 1701 بـ»قواعد اشتباك» لا تتصل بدور الأمم المتحدة في المطلق إن عاد الجميع الى «تفاهم نيسان 1996» ومقتضيات انسحابه من طرف واحد في 25 أيار من العام 2000 بعد 22 عاما على صدور القرارين 425 و 426 سنة 1978. بالاضافة الى ما انتهت اليه المواجهات المتعددة قبل حرب تموز 2006 وبعدها من تفاهمات ومعادلات غير مباشرة ما زالت تتكرر مع كل مواجهة امنية وعسكرية ومخابراتية بين الحزب واسرائيل، والتي شملت في مرحلة لاحقة ما كان يجري على الاراضي السورية بينهما بعيداً من دور هذه القوات ومهماتها، لا سيما منها تلك التي قالت بها أكبر عملية تبادل بقايا جثّتي الجنديين الاسرائيليين والاسرى اللبنانيين والفلسطينيين عام 2008.

 

على هذه القواعد الخارجة عن أيّ من التفاهمات الدولية بُنيت المفارقات الجديدة التي حولت الجنوب مستنقعاً للتناقضات، والتي تحتاج الى جهد اضافي لفهم مراميها واهدافها وما يمكن ان تؤدي اليه مثل هذه التصرفات بعيدا عن المبادىء الاممية والقانونية التي تم تجاوزها وأسقطت كثيرا من عناصر القوة القانونية لمصلحة موازين القوى، وهو ما أظهرته المخالفات المرتكبة في الترسيم البحري والتضحية بالحقوق اللبنانية عندما أخضعت للتوازنات السياسية الداخلية والاقليمية والدولية التي وفّرت لها ظلالا سمحت لجميع الأطراف المعنية بإعلان خروجها منتصرة. وهو امتحان جديد يفرض على اللبنانيين انتظار ما يمكن ان يقود اليه الجهد إن بذل لتحديد وتصحيح الحدود البرية اذا بلغت المساعي هذه المرحلة المتقدمة للتثبّت إذا كان لبنان سيتدارك الأخطاء السابقة والتعلّم بما يضمن حقوقه قبل فوات الاوان.