IMLebanon

أي اتحاد بعد الانسحاب؟

أبدت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية جرأة أدبية كبيرة عندما نشرت على غلافها الرئيسي (الثاني من تموز/ يوليو 2016) رسماً يمثل العلم البريطاني على شكل لباس داخلي مرفوع فوق سارية!!

وفي افتتاحية ذلك العدد، قدمت المجلة صورة محزنة عن حالة بريطانيا بعد التصويت على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع يمكن اختصار معالم هذه الصورة في الاسباب التالية: 

1 ـ استقالة رئيس الحكومة وانقسام حزب المحافظين بشأن من يكون الخليفة الذي سيتولى عملية الانفصال عن أوروبة وفقاً للمادة 50 من معاهدة لشبونة.

2 ـ انقسام حزب العمال المعارض على نفسه، بين مؤيد لزعيمه ومعارض له. وبالتالي ظهور حالة سياسية انقسامية عميقة لم تعرف بريطانيا لها مثيلاً من قبل.

3 ـ حتى ان زعيم حملة الانفصال عن أوروبة رئيس حزب الاستقلال نيجل فراج، والذي احتفل بنتائج الاستفتاء بتشفٍ في البرلمان الأوروبي في بروكسل أي في عقر دار الاتحاد أعلن الاستقالة من زعامة الحزب بعد اعلان النتائج. فالرجل اعتبر ان مهمته قد انتهت بالانفصال. أما تبعات هذا الانفصال، ومسؤوليات ما بعده، فليست شأنه ولا هي من اختصاصه. وقد ترك هذه المسؤولية لغيره (؟)، أما هو فقد أدى قسطه للعلى!!.

4 ـ هبوط قيمة الجنيه الاسترليني الى أدنى مستوى له منذ 31 عاماً.

5 ـ خسارة المصارف البريطانية ثلث قيمتها.

6 ـ اعلان اسكوتلندة نيتها بإجراء استفتاء شعبي جديد للانفصال عن المملكة المتحدة بحجة ان مصالحها الاقتصادية هي مع أوروبة، وان الناخب السكوتلندي الذي صوّت بأكثرية كبيرة الى جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي، يجب احترام ارادته. وعندما جرى الاستفتاء السكوتلندي على الانفصال في عام 2014 فان السكوتلنديين الذين عارضوا الاستقلال وصوتوا مع البقاء في المملكة المتحدة اتخذوا قرارهم على اساس انها أي المملكة المتحدة- عضو في الاتحاد الأوروبي، وأن هذه العضوية تحفظ مصالح اسكوتلندة. ولكن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد فان الأكثرية الساحقة من السكوتلنديين سوف تجد نفسها مضطرة للتصويت هذه المرة مع الاستقلال الوطني، ومع البقاء في أوروبة.

7 ـ إعراب شمال ايرلندة التي صوتت بأغلبية كبيرة ايضاً الى جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي عن رغبتها كذلك بالانفصال عن المملكة المتحدة. فالاتحاد الأوروبي هو الذي يرعى ما يعرف باتفاق «الجمعة العظيمة» لعام 1998، الذي أوقف الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك. ويخشى أن يؤدي خروج ايرلندة من الاتحاد الى طيّ صفحة الرعاية الأوروبية للاتفاق، وقد يسقط هذا الاتفاق أيضاً الذي حافظ على السلام والاستقرار في شمال ايرلندة طوال العقدين الماضيين.

8 ـ تمّ جمع أربعة ملايين توقيع بريطاني على عريضة تطالب بإجراء استفتاء جديد، مما يعكس انقساماً حاداً وواسعاً في الرأي العام البريطاني.. الى جانب الانقسام الحاد والواسع في صميم حزبي المحافظين والعمال.

9 ـ ان أي صيغة بريطانية للعودة الى الاتحاد الأوروبي ستكون صيغة مهينة لبريطانيا بعد أن اشترك 34 مليوناً في الاستفتاء العام، والذي جاءت نتائجه واضحة بالانسحاب. ولا تستطيع بريطانيا أن تتحمل اهانة سياسية، وهي التي لم تهضم الاهانة الرياضية التي تعرضت لها في كرة القدم على يد الفريق الايسلندي المجهول- الذي اقصاها عن بطولة أوروبة.

10 ـ ان السوق الأوربية وحدها تستورد نصف الصادرات البريطانية تقريباً، فإذا اغلقت هذه السوق في وجه هذه المنتجات، فأي كارثة سوف تحلّ بالاقتصاد البريطاني؟.

11 ـ لقد صوّت أكثر من 17 مليون ناخب بريطاني الى جانب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. بعضهم وجد في التصويت مناسبة ليرفع الاصبع الأوسط من يده في وجه أوروبة ترفعاً وتعالياً عليها، وبعضهم الآخر وجد فيه مناسبة ليرفع الأصبعين الأوسط والسبابة معاً (بمعنى الانتصار). ولكن يبقى السؤال الذي يقضّ مضاجع البريطانيين والأوروبيين معاً وهو كيف ستتعامل بريطانيا مع ثلاثة ملايين اوروبي من جنسيات مختلفة يعيشون ويعملون فيها منذ عقود؟.

يعتبر كثير من البريطانيين ان بريطانيا بتصويتها الى جانب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لم تقوّض أسس الحلم الأوروبي بالوحدة. بل ان هذا الحلم سقط قبل الاستفتاء من خلال سلسلة المظاهرات الرافضة للسياسة الأوروبية تجاه قضية المهاجرين تحديداً. ويخشى ان يواجه هذا الحلم الضربة القاضية في الانتخابات العامة التي ستجري في ألمانيا حيث يرفع اليمين عقيرته ضد المستشارة انجيلا ميركل ويحمّلها مسؤولية تشويه الشخصية الألمانية بفتح الأبواب أمام مليون مهجر من الشرق الأوسط وافريقيا. وتتكامل هذه المشاعر ذات النزعة الانطوائية في هولندة وفرنسا وحتى في ايطاليا.

كان مؤسسو الاتحاد الأوروبي يعتقدون انه يمكن تطوير الاتحاد تدريجياً بحيث يصبح نوعاً من الاتحاد السياسي الذي لا يترك فرصة أمام اي عضو للخروج منه أو للخروج عليه.. ولكن التجربة البريطانية أثبتت أمراً آخر. وهو ان الاتحاد هو مجرد نادٍ يحق لاي دولة اوروبية ان تنضم اليه، أو أن تنسحب منه متى أرادت. مع ذلك فان الاتحاد الأوروبي اليوم ليس افضل حالاً من بريطانيا المنقسمة على ذاتها. فقد تصدعت أركانه نتيجة الخروج من الاتحاد. وقد فتح هذا الخروج فوق كل مساوئه ومحاذيره شهية أعضاء آخرين على الاقتداء ببريطانيا.. بخاصة اذا كان خروجها بلا ثمن ولا عقاب.

ولذلك رد رئيس الاتحاد الأوروبي على مطالب رئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون وضع صيغة للخروج الآمن والمتفق عليه لمواصلة التعاون في المستقبل، رد بقوله: « لا توجد عضوية حسب الطلب». فأما عضوية ملتزمة بكل قوانين الاتحاد وأنظمته ومؤسساته، أو لا عضوية. وقد بدا في ذلك وكأنه يوجه رسالة تحذير الى كل من تسول له نفسه في الدول الأوروبية الاخرى الاقتداء بالتجربة البريطانية.