علامات استفهام كبيرة رافقت الجريمة المروعة التي ارتكبتها عناصر من «جبهة النصرة» بقيادة عبد الرحمن التونسي في قرية «قلب لوزة» في جبل السماق في سوريا وذهب ضحيتها ستة وعشرون عربياً سورياً من الموحدين المعروفيين، أكانت من حيث التوقيت أو من حيث الهدف الذي كاد أن يُشعل حريقاً فتنوياً مذهبياً لا تقتصر ارتداداته على المكان، بل كانت شراراته ستمتد لتطال لبنان.
لكن رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي «رصد» الحريق، سارع إلى مزاولة ما برع فيه منذ أن اتخذ قرار «الهجرة» إلى السلم الأهلي والمحافظة على الاستقرار الداخلي اللبناني بكل ما أوتي من علاقات محلية وإقليمية، والخروج من الاصطفافات السياسية الداخلية الحادة والتموضع في الوسط دون مراعاة لحساباته الخاصة، فنجح في تصويب البوصلة والحد من ارتدادات جريمة «قلب لوزة» ولعب دور الاطفائي لإخماد نيران «الحريق«.
غير أن ما يستدعي التوقف عنده هو أن «جبهة النصرة» التي فرضت سيطرتها بالكامل على محافظة إدلب والقرى السبع عشرة في جبل السماق التي يقطنها أبناء الموحدين الدروز منذ نهاية شهر آذار الماضي، كانت بعد مناوشات عديدة مع ابناء هذه القرى واعتداءات «فردية» بحقهم بعيدة عن جوهر الاسلام، دين التسامح والسلام، قد أصدرت «فتاوى» شرعية تنظم علاقة الجبهة بالموحدين المسلمين العرب، إضافة إلى الاتصالات التي أجراها جنبلاط وافضت إلى «عقد الراية» بين ابناء «البيئة السورية الواحدة»، فكان الموحدون يعيشون حياة شبه طبيعية حتى أنهم فتحوا أبواب منازلهم بحكم «التقاليد الاسلامية العربية المعروفية» لإيواء الفارين من بطش الديكتاتور المجرم في دمشق، والثائرين على نظامه.
في غضون ذلك، كانت مختلف فصائل الثورة والمعارضة السورية تدين الجريمة وتشيد بالدور الذي لعبه أبناء طائفة الموحدين الدروز في احتضان القوى الثائرة على النظام السوري المجرم، وتحذّر من مغبة الفتنة التي يحاول أركان هذا النظام وشبيحته إيقاعها بين السوريين، لتصويره على أنه «الحامي والضامن للأقليات ومن ضمنها طائفة الموحدين».
وكان رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية خالد خوجة شدّد على أن «الموحدين الدروز في منطقة ادلب كانوا أهم حاضنة شعبية للثورة منذ انطلاقتها، وهم من دعم الجيش الحر«، وهذا ما يطرح السؤال البديهي عن المستفيد من الحادثة التي شدّد جنبلاط على وصفها بـ «الفردية»، والذي هو أحد اثنين لا ثالث لهما، الأول هو النظام المجرم الحاقد في دمشق الذي لم ولن يتوانى عن استعمال الموحدين وقوداً لحماية وجوده ونظامه وسلطويته، والثاني هو العدو الاسرائيلي الذي اختبره الموحدون الدروز في لبنان بعدما أوقع بينهم وبين أشقائهم المسيحيين في الجبل خلال اجتياحه للبنان في العام 1982، والذي رفض جنبلاط وحذر «من التحريض الذي يمارسه الاسرائيلي حول العرب الدروز في سوريا«.
وغرّد جنبلاط مباشرة بعد ورود أنباء حادثة «قلب لوزة»، على موقع «تويتر» قائلاً إن «كل كلام تحريضي لن ينفع«، مستبقاً ردود الفعل التي قد تصدر حول الحادثة، وقد صدرت، مؤكّداً أن «سياسة بشار الأسد اوصلت سوريا الى هذه الفوضى».
وإذا كان جنبلاط قد حرص وشدّد دائماً، ويؤكّد على أنه يعارض التدخّل في سوريا من أي جهة كانت، ويعتبر أن ما يجري في سوريا أكبر من أن تتمكّن فئة لبنانية، أي فئة، من إحداث تغيير في مسار الأحداث فيها، بالمقابل برزت أصوات «نشاز» متوقعة، تدعو إلى «التسلّح والتسليح وتأسيس الجيوش» وتتوعّد بـ «الويل والثبور وعظائم الأمور« والتهديد بالقتال إلى جانب النظام السوري مستجدية السلاح «المشبوه» منه، غير أنه فات هذه الأصوات أن معظم دول العالم وابناء سوريا بالذات، باتوا مقتنعين بعدم «قابليته للحياة»، فيما هي لا تزال «تحلم» باستمراريته ولو على حساب «الفتنة».
إن «المتاجرة بالدماء العزيزة التي سقطت في قلب لوزة لا ينفع»، يقول مفوّض الاعلام في الحزب «التقدمي الاشتراكي» رامي الريّس لـ «المستقبل»، مشدّداً على أن «الهيجان وتحريض الموحدين العرب في سوريا سيورّطهم بمزيد من الدماء وهذا ما لا يرتضيه عاقل ولن يفيد الموحدين بشيء».
وذكّر الريّس بأن «النظام السوري لم يفرّق بين درزي وسني وعلوي أو مسيحي في حربه الحاقدة على أبناء شعبه، وهو قتل لغاية اليوم أكثر من 350 ألف مواطن بريء، ولا تزال آلة قتله تمعن في زهق أرواح السوريين على مختلف انتماءاتهم، وهل علينا أن ننسى أنه قصفهم بالكيماوي ولا يزال يرمي عليهم البراميل المتفجرة يومياً؟«.
وعن سبل تفادي ما حصل واحتمال أن يصيب أبناء الطائفة في السويداء ما أصاب ابناء «قلب لوزة»، أشار الريّس إلى أن «محاولات النظام السوري عبر أجهزة مخابراته وشبيّحته لإيقاع شرخ بين ابناء السويداء جارية على قدم وساق، غير أن حكمة العقلاء من مشايخ جبل العرب، والاقتناع بأن المستقبل السوري بات مرسوماً من دون بشار الأسد ونظامه، وأن على الموحدين الاندماج في المحيط الذي يعيشون فيه، كفيل بأن يضمن مرور هذه الفترة الصعبة ليس على الموحدين فحسب، بل على أبناء سوريا بالكامل، من دون إزهاق المزيد من الأرواح البريئة».
طيلة 45 عاماً من نظام الأب والابن، ارتكبت المجازر، وسالت الدماء غزيرة، ودمّرت مدن عن بكرة أبيها، وارتفعت الشعارات الفارغة من المضمون، بهدف تأمين استمرارية الحكم العائلي الأسدي، الذي قام على اجهزة المخابرات التي حرّضت الأم على ابنها، والأخ على شقيقه، والأجهزة المختلفة على بعضها، حتى بات الرعب سمة من سمات حياة السوريين، لكن السوريين عبّروا عن إرادتهم في الحرية والكرامة و«الثورة السلمية» على النظام الذي زاول ما لا يجيد سوى فعله وهو تحويل هذه الثورة إلى حديد ونار فأغرق سوريا في حرب استنزفت كل مقوماتها ومقومات أبنائها.
ويؤكّد الريّس أنه «قبل فوات الأوان، لا يزال بالإمكان أمام أبناء جبل العرب التقاط اللحظة رغم حراجتها، واتخاذ الموقف التاريخي لتكريس المصالحة مع المحيط، بما يولّد تفاهمات تحصّنهم وتحصّن محيطهم إزاء المنعطفات الكبرى التي تعيشها سوريا في هذه الأسابيع، والتي من الواضح أنها اتخذت منحى مختلفاً عن السابق».
وبما أن مستقبل الدروز في جنوب سوريا محكوم بالمصالحة وعقد الراية والتآلف مع أهل حوران كما يؤكّد جنبلاط، فإن الأصوات «النشاز» في لبنان التي إن أدركت وهذه مصيبة، وإن لم تكن تدرك، وهذه مصيبة أكبر، تعرّض الاستقرار في لبنان للخطر، في حين أن المطلوب هو التمسك بدعم الشرعية والدولة والجيش، وخوض معركة الدفاع عن لبنان والاستقرار فيه، وليس المطلوب استجداء السلاح .. المشبوه.