IMLebanon

اتحدوا واتركوا للنظام و… أهل فيينا تعطيل المفاوضات!

لا يعقل أن يفوت ممثلو أطياف المعارضة السورية فرصة لقاءاتهم الجامعة في الرياض. لا بد من أن يلتقوا على موقف موحد، ثم على وفد واحد يمثلهم جميعاً. لا يمكنهم بعد هذا التشرذم المستمر منذ اندلاع الأزمة أن يواصلوا خلافاتهم. الرعاة الدوليون والإقليميون الذين التقوا في فيينا ويستعدون للقاء ثالث قريباً لن يسمحوا لهم بترف الاختلاف. لن يكون أمامهم سوى الموافقة، أقله، على «خريطة الطريق». قد يبدو الأمر صعباً أو مستحيلاً بالنظر إلى خريطة الحاضرين وتوجهاتهم وبرامجهم ومواقفهم وأوراقهم المتعارضة. ولكن، لن يكون أمامهم سوى الاتفاق على الحد الأدنى. ويجب ألا يستبعدوا اعتماد صيغة التصويت في القضايا موضع الخلاف. ولن يفيدهم بعد هذين اليومين التباكي على غيابهم عما يرسم لسورية، كما حصل في لقاءي فيينا وما بينهما. الواضح أن الدول الكبرى قررت أخذ القضية بيدها. وهي تتجه تدريجاً إلى تقليص دور القوى الإقليمية، فكيف بدور القوى السورية والفصائل المسلحة؟! لا يخفى على أحد أن التفاوض الحقيقي يجرى في دوائر خارجية أكبر. ويدور بين الولايات المتحدة وشركائها من جهة وروسيا وحلفائها من جهة ثانية. أو بين الدولتين الكبريين تحديداً. لذلك، إنها الفرصة الأخيرة ليترجم المدعوون إلى العاصمة السعودية تصميمهم على أخذ القضية بأيديهم. أو على الأقل إيصال أصواتهم ورغباتهم وطموحاتهم إلى اللاعبين الخارجيين المتصارعين على بلادهم.

لا يحتاج ممثلو المعارضة بشقيها السياسي والعسكري إلى من يحملهم مسؤولية إخفاق خريطة التسوية. جلهم يؤمن بأن النظام ليس جاداً ولا رغبة لديه في أي تسوية. من المجدي، في مثل هذه الحال، أن يتركوا له أمر إحباط مسيرة الحل. فهو يعاند ولا يزال يأبى أي تسوية. ويصر على الحسم العسكري ويضع جميع معارضيه في سلة واحدة، في صف الإرهاب. حكومة دمشق لم تنتظر ساعات كي تعلن رفضها العملية السياسية التي اعتمدها لقاء فيينا الثاني. وأعلنت أن ليس مسموحاً لأحد، «عدواً أو صديقاً»، بأن يضع أجندات زمنية، أو الدخول في آليات التغيير وبنية التغيير… على حد ما عبر أحد وزرائها. وما انفك الرئيس بشار الأسد يكرر أن هزيمة الإرهاب واستعادة كل الأراضي إلى سيادة الدولة يسبقا أي التزام للجدول الزمني المقترح لإجراء انتخابات. أبعد من موقف النظام، ليس واضحاً تماماً حد التوافق بين اللاعبين الكبار. بل إن التخبط الذي تشي به مواقف هؤلاء، من روسيا إلى أميركا وأوروبا، تعبير واضح عن غياب تصور موحد لمآلات التسوية، مهما قيل عن تفاهم بين واشنطن وموسكو. بل إن الصرع المستجد بين روسيا وتركيا، والذي انضمت إليه إيران، كفيل وحده بتعميق الهوة بين «أهل فيينا». فلا يخفى دور هذه الدول الثلاث المحوري في الأزمة.

لا شك في أن لموسكو اليوم الكلمة العليا والفصل. وإذا كانت راغبة في تسوية حقيقية وليس الاكتفاء بإعادة تأهيل رأس النظام، فإنها ستكون على موعد خلاف معه عاجلاً أم آجلاً. وكذا حالها مع طهران التي لا تخفي توجسها من التمدد الروسي على حساب دورها في بلاد الشام. وستثيرها دعوة المجموعة الدولية قريباً إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من سورية. وهي تدرك أن الولايات المتحدة تؤمن بأن لا دور ولا حضور دائماً لها في هذا البلد. وكانت واشنــطـــــن تبدد قلــــق الخليجيين من تمدد الجمهورية الإسلامية بالسؤال: كيف يمكن أن تسمح الديموغرافيا المذهبية في سورية بإعطاء إيران ما ليس لها؟! هنا خريطة المكونات تختلف تماماً عما هي عليه في العراق. تماماً كما هي حال الخريطة اليمنية التي لا يمكن الإيرانيين أن يقيموا فيها ويبدلوا في مكوناتها مهما طال الزمن!

أن يستغل ممثلو المعارضة فرصة لقائهم الواسع والشامل للقاء على تصور موحد ووفد واحد إلى المفاوضات لا يعني أن يفرطوا بالمزيد، خصوصاً أن عدم توافقهم سيقود اللاعبين الخارجيين إلى فرض تصورهم للتسوية، وربما إلى اختيار الوفد المفاوض. قدّم الوافدون إلى الرياض كماً هائلاً من التنازلات بسبب تنازل قوى كثيرة بينهم عن دورها ورؤيتها لمصلحة أطراف إقليمية ودولية كثيرة. وحان الوقت ليضعوا الجميع أمام مسؤولياتهم. «بيان جنيف – 1» اعتمد صيغة مددت عمر الحرب ثلاث سنوات، لأنها أتاحت قراءات مختلفة لمضمونه. و «خريطة فيينا» بما فيها من غموض، وترحيل أو تأجيل لبند مصير الأسد ومستقبله، يخشى أن تضيع في ثنايا قراءات متعارضة. وقد لا يكون مطمئناً هنا وضع ثقة كاملة بدور روسيا وأجندتها التي يروج كثيرون أنها ستقود، مع تقدم العملية السياسية، إلى ترحيل رأس النظام طوعاً أو إرغاماً، بخاصة أن استراتيجية موسكو تصطدم بعقبات كثيرة ولا تلقى قبولاً لدى قوى دولية وإقليمية معنية بالأزمة السورية، مهما بدا أن هذه القوى تقترب من موقفها. بل هي تدفع نحو رفع وتيرة التصادم مع تركيا التي ليس لها حدود طويلة مع سورية فحسب، بل باع طويلة ودور مؤثر في الساحة السورية. ولا تعدم مؤازرة قوى عربية ودولية، فضلاً عن حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي وقد دفعته بفتح الأبواب أمام المهاجرين إلى مدها ببضعة بلايين من الدولارات!

توافق ممثلي المعارضة حيوي ومصيري. بعد لقاءات الرياض ستتبدل النظرة إلى كل تكتل وقوة في صفوفهم، من «الائتلاف الوطني» إلى «هيئة التنسيق». وستصيب الفصائل العسكرية بلبلة بين من حضروا ومن غابوا، ومن هم مرشحون للائحة الإرهاب وأولئك الذين سيستثنون. المهم ألا تقود مسيرة اختيار وفد موحد، ثم الانخراط في المفاوضات إلى تفتيت ما بقي حتى اليوم عصياً على ذلك. أو إلى معارك جانبية بين الذين كانوا حتى الأمس في صف واحد يواجهون النظام والحركات المتطرفة. وقد تسهّل لائحة الحاضرين وما يمثلون من مهمة الأردن الذي كلف وضع لائحة بالقوى الإرهابية. وهي مهمة شاقة ما كان ليرتضيها لولا ضغوط الكبار وتمنياتهم. فالأردنيون الذين عرفوا كيف يحافظون على حدودهم بعد خمس سنوات من الفوضى، يدركون أن ليست هناك معايير موحدة لتسمية الإرهابيين من خلافهم. فما ترى إليه هذه القوة الإقليمية أو الدولية إرهابياً تعده قوى أخرى معتدلاً. ويكفي إدراج هذا الفصيل أو ذاك ليثير مشكلة أو امتعاضاً يوتر علاقات عمان مع هذه العاصمة أو تلك.

كذلك، إن توافق المجتمعين في الرياض على ورقة أو سياسة أو تصور موحد لهوية سورية ونظامها وصورتها ومستقبلها يساهم هو الآخر في تسهيل مهمة الأردنيين وجميع الساعين إلى تحديد القوى التي ترتضي بالتسوية السياسية في ظل نظام يستوعب كل المكونات ويحفظ لها حقوقها، إذ يتحول هذا التصور الموحد مقياساً ومرجعاً للقوى التي تنضوي تحت لوائه أو تلك التي ترفض وتصر على فرض رؤيتها لهوية البلاد وتريد السير في ركاب مشروع المتطرفين وقوى الإرهاب. بالطبع لا يعقل تحميل المجتمعين وحدهم مثل هذه المسؤولية. على الدول التي ترعى أو تتعاطف مع قوى المعارضة أن تدفع باتجاه توحيد سياساتها حيال الأزمة وسبل حلها. فهي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن تشرذم القوى والفصائل التي لم تجد لها معيناً بعد عسكرة الحراك وتدفق قوى الإرهاب إلى الميدان سوى التوجه نحو الخارج طلباً للعون والمدد. مثلما يتحمل المجتمع الدولي أو الدول الكبرى بلا مبالاتها، المسؤولية عن استمرار الحرب التي باتت تدق أبواب العالم كله شرقاً وغرباً. وقد يبدد تفاهم المعارضة المواقف المترددة والمرتبكة لقوى كثيرة ترغب في التغيير في دمشق بقدر حرصها على منع انهيار الدولة.

ولا تغيب هنا مسؤولية الأمم المتحدة التي استهلكت الأزمة السورية اثنين من مبعوثيها وتكاد تستنفد مهمة الثالث الذي قد تحتاج المرحلة المقبلة إلى مبعوث رابع يواكب المرحلة الجديدة التي ستدخلها الأزمة. فإذا كانت مهمة أي مبعوث انتظار التوافق الأميركي – الروسي أو توافق مجلس الأمن، كما قال كوفي أنان المبعوث الأول عشية استقالته، فأي دور يبقى للمنظمة الدولية؟ حاول ستيفان دي ميستورا أن يطرح بداية حل لوقف العنف والنار انطلاقاً من حلب ففشل. وطرح أفكاراً بددت ثقة أطراف معنيين بدوره ومهمته. وعاد أخيراً إلى المربع الأول، إلى بيان جنيف، ثم إلى خريطة فيينا. وهو يعول اليوم على دور القوى الإقليمية وتأثيرها في الفصائل المعارضة. وعلى أهمية التوافق الدولي، خصوصاً بين واشنطن وموسكو. لم تعد لديه رؤية خاصة يسعى إلى تسويقها لدى القوى المتصارعة المحلية والخارجية. يكتفي بإدارة ما يتوافق عليه الكبار. فهل يتنحى بعد أشهر عندما يحين استحقاق المفاوضات في غياب تصور واضح وجلي لمآل هذه المفاوضات؟ المرحلة المقبلة التي تنذر باستمرار الأزمة تستدعي مبعوثاً أكثر حيوية وقدرة، لإدارة الطور الجديد من العنف وانخراط قوى كبرى مباشرة في الحرب. مثلما تستدعي أفكاراً وخطة جديدة للتسوية تضعها على السكة الصحيحة والمقبولة والمنطقية.