IMLebanon

فيروس «كورونا» وإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان

 

يُصادف العاشر من كانون الأول ذكرى اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وعلى الرغم من أنها وثيقة غير مُلزمة، إلّا أنّ هذا الإعلان الريادي أرسَى معياراً دولياً بشأن حقوق الإنسان، وألزَم الأمم المتحدة الدفاع عن كرامة الناس كافة.

ومن العار أنّ هذه الوثيقة لم تخضع للتعديل أو التحديث منذ تاريخ صياغتها الأولى. وسوف يكون من دواعي العار إن لم نَنتهِز الفرصة الراهنة، إثر تجربتنا القاسية والمؤلمة للغاية مع وباء “كورونا المستجد”، لتغيير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحيث يجعل الحق في الصحة من أهمّ وأقدس حقوق الإنسان كافة.

 

آمل في أن يكون الوباء الراهن قد لَقّن الناس من أرجاء العالم كافة درساً كان لِزاماً عليهم إدراكه منذ زمن طويل: الصحة هي أغلى وأثمن ما نملكه. ويستند الحق في الحياة والبقاء إلى الحق في الصحة، ولكن هذا الحق يستلزم الحق في توفير الرعاية الصحية. والأشخاص الأصحاء يعدون الصحة من الأمور المُسَلَّم بها. وهذا هو السبب في أنّ الصحة والرعاية الصحية لم تكن على رأس الأولويات بالنسبة إلى أغلب الحكومات، بما في ذلك حكومة الولايات المتحدة. وعندما يُصاب الناس بالمرض، وعندما يُصابون بمرض خطير على وجه الخصوص، فإنهم عند ذلك فقط يدركون أهمية الصحة.

 

هناك مقولة تفيد بأنّ “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”. وخلال هذا العام من جائحة فيروس “كورونا المستجد”، شَعر الناس من أرجاء العالم كافة على نحوٍ مفاجئ بالتهديد الذي يشكِّله الفيروس الفتّاك، وباتوا يخشون من فقدان حياتهم إذا أُصيبوا بالمرض. وعليه، أعتقد أنّ الآونة الراهنة هي من أنسَب الأوقات لتعديل إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حتى يتسنّى تأكيد إرساء الأهمية الكبرى للحق في الرعاية الصحية.

 

تَسبّب فيروس “كورونا” في هزّة كبرى للعقل البشري وللعالم بأسره. وأسفرَ ذلك عن تَغيُّر جذري في القناعات التقليدية لدى أغلب الناس. وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، بات لدى كل الناس سبب وجيه للاتفاق على أهمية الصحة وقيمتها، والحاجة إلى الوصول للرعاية الصحية الجيدة. ويَتعيّن على الإنسان أن يكون على قيد الحياة أولاً حتى تتسنّى له الاستفادة من حقوق الإنسان الأخرى المَنصوص عنها في الإعلان الأممي. وعليه، فإنني أدعو منظمة الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة خاصة معنية بتحديث هذه الوثيقة الأممية المهمة.

 

إنَّ مِن أبلَغ واجبات أي حكومة هو حماية مواطنيها من الأمراض ومن التهديدات الأخرى على صحتهم وسلامتهم. ولا ينبغي أن يكون هناك حق من حقوق الإنسان يتجاوز أو يحلّ مكان الحق في الحياة. وعند الحكم على الدول والحكومات، بناءً على أدائها والتزامها بحقوق الإنسان، ينبغي أن تكون الرعاية الصحية هي القضية الأَوْلى بالنظر والاهتمام. والحكومات التي لا تحترم حق المواطنين في الحياة تفقد احترامها للشعب نفسه في المقام الأول.

 

لقد تعلّمنا من الجائحة الراهنة أيضاً الدور المحوري الذي تضطلع به منظمة الصحة العالمية، ويكمن محور الالتزام الرئيسي لهذا الفرع من المنظمة في منع الأمراض وحماية الناس من الأوبئة. وتكمن مأساة الفيروس الفتّاك الراهنة في أنه كان من الممكن الوقاية منه. لقد أخفقت منظمة الصحة العالمية في منع انتشار وباء “كورونا” أو إبطائه، وباتت البشرية بأسرها تعاني الكابوس المريع الحالي إثر هذا الإخفاق الكبير. ومن واقع الأوضاع الراهنة، تُعدّ منظمة الصحة العالمية في حالة اختلال وظيفي واضحة. وكان لِزاماً عليها إدراك قدرة الفيروس على الانتقال من شخص إلى آخر قبل شهرين من إعلانها عن ذلك.

 

وكان ينبغي العمل على احتواء العدوى الفيروسية داخل حدود مدينة ووهان الصينية. ومن الواضح أنّ الحكومة الصينية لم تلتزم الشفافية المطلقة في ذلك، إذ جرى تشخيص الحالات الأولى للإصابة بفيروس “كورونا” للمرة الأولى في الصين بين شهري تشرين الثاني وكانون الأول من عام 2019، غير أنّ الحكومة الصينية لم تعترف بحالة الإصابة الأولى رسمياً حتى تاريخ 7 كانون الثاني 2020، ولم تُصدر بعثة منظمة الصحة العالمية هناك بيانها الرسمي الذي تعترف فيه بالأدلّة على انتقال العدوى الفيروسية من إنسان إلى آخر في مدينة ووهان حتى تاريخ 22 كانون الثاني من العام الجاري، كما لم تعلن منظمة الصحة العالمية عن تفشي فيروس “كورونا” بِوَصفه “حالة طوارئ صحية ذات اهتمام دولي” حتى تاريخ 30 كانون الثاني من العام الجاري. ولعلّ الأسوأ من كل ما تقدّم أنّ منظمة الصحة العالمية استغرقت 39 يوماً آخر قبل أن تُعلن في 11 آذار من عام 2020 أنّ فيروس “كورونا” يمكن وصفه بأنه “جائحة”. وبحلول ذلك الوقت، كان مئات الآلاف من المواطنين الصينيين قد ارتَحلوا إلى كلّ رُكن من أركان البسيطة وهم يحملون الفيروس القاتل.

 

ولا يمكن اعتبار الكارثة ذات المستوى العالمي التي نُكابِدها راهناً من قبيل القضاء المحتوم، بل ينبغي إرساء جانب المسؤولية البالغة على عاتق الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية في الإخفاق الواضح عن حماية شعوب العالم بأسره. لقد تعرّض أكثر من 65 مليون شخص حول العالم للإصابة بالفيروس، وفقدَ أكثر من 1.6 مليون شخص آخر حياتهم بسببه، ولا يزال العالم بأسره يعيش تحت مظلة بالغة القسوة من الخوف والهلع. ومن الأمور المُحيِّرة للعقول أن نتصوّر أنه كان من الممكن تفادي هذه الكارثة المريعة بأسرها.

 

كما آمل أن نكون قد تعلّمنا من الجائحة الراهنة أنّ الإنسان واحد والأرض واحدة، وأنّ التهديدَين الرئيسيين الكبيرين على الحضارة والبشرية – التغيرات المناخية والأوبئة – لا يميّزان بين شخص أو آخر. كما أنهما لا يفرّقان بين الغني والفقير، ولا بين الأبيض والأسود، ولا يعترفان بالحدود القومية للدول والبلدان. وعليه، هناك حاجة ملحّة، ليس فقط لإصلاح منظمة الصحة العالمية، وإنما لإجراء المراجعات الرئيسية في منظمة الأمم المتحدة كذلك. فالإنجازات الراهنة لمنظمة الأمم المتحدة تتّسِم بأنها واهِنة أو غير كافية. ومن ثم، ينبغي تعزيز أركان هذه المنظمة وتغييرها بصورة جذرية.

 

تعدّ منظمة الأمم المتحدة هيئة من ممثلي الدول الأعضاء، لكنّ هؤلاء الممثلين يتّسِمون في المُعتاد بقدرٍ كبير من البيروقراطية ونقص الابتكار. ومن شأن منظمة الأمم المتحدة أن تَستحدِث آلية جديدة تُتيح للأشخاص الموهوبين وأصحاب الخبرات والمبدعين اتخاذ القرارات ذات الأهمية بشأن التهديدات والقضايا الكبيرة التي تواجه العالم. والتمثيل الحكومي في تلك المنظمة مطلوب من دون شك، لكنّ هؤلاء الممثلين في حاجة حقيقية إلى قيادة فاعلة. والعالم بأسره في حاجة إلى عقول كبيرة، كما يحتاج تماماً إلى أشخاص مسؤولين يَتّصِفون ويتصرفون وفق المعرفة والانضباط والفاعلية، إذ إنّ البيروقراطية الخالصة لا تخدم العالم المعاصر في شيء.

 

كما تعلّمنا أيضاً من جائحة “كورونا” أنّ العلم والأبحاث يعدّان الأسلحة الرئيسية في قهر الأمراض والأوبئة التي تهدد حياة البشر والحضارات، ومن شأن الغزو النهائي للوباء الراهن أن يحدث في أعقاب التوَصّل إلى علاج فعّال لهذا المرض، وبقدر أبلَغ من الأهمية تطوير اللقاح الفعّال المضاد له. وبفضل العلماء والباحثين، سوف تصبح اللقاحات المضادة متاحة للتوزيع خلال الشهر الجاري، أي بعد مرور 10 أشهر فقط على اكتشاف الجائحة. وهذا يعدّ من الإنجازات التاريخية، ومن المَعالم الكبرى في حياة البشر كانت قيمة التعاون بين الأوساط الأكاديمية ومختلف الحكومات حول العالم وصناعة الأدوية والعقاقير. لقد أسهمت تقنية (الحمض النووي الريبوزي المرسال) المُستَخدمة من شركة “موديرنا”، والتعاون بين شركتي “فايزر” و”بيو إن تك” في تطوير اللقاحات الخاصة بها، وفي إتاحة الفرصة الجديدة لصناعة، ليس فقط المزيد من اللقاحات، وإنما العقاقير الأخرى أيضاً التي تُسهم في علاج الأمراض الجديدة.

ينبغي للتحسينات الجارية في علاج فيروس “كورونا المستجد” مع التطور الكبير في اللقاحات المضادة أن تذكِّرنا بالحاجة الماسّة إلى المزيد من الدعم المالي والحكومي والمُجتمعي للأبحاث والعلوم. وممّا يُؤسَف له أنه جرى تخفيض الميزانية الفيدرالية للعلوم والأبحاث في الولايات المتحدة بصورة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية. ولا بد من عَكس هذه التوجهات، كما ينبغي أيضاً تشجيع الأشخاص المعنيين بالأعمال الخيرية على التبرّع بالمزيد من الأموال في دعم البحث العلمي، إذ إنّ مستقبل البشرية يستند بالأساس إلى العلوم لا إلى السياسة.

 

وختاماً، كان من الممكن تفادي المأساة الرهيبة لوباء “كورونا المستجد” إلى درجة كبيرة، بَيد أنّ الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية لم تتحركا بالسرعة الكافية التي كانت متوقعة، إذ إنّ مسؤولية مكافحة الأمراض والأوبئة تقع بالأساس على عاتق العلماء، ومن ثم حَريٌّ برجال السياسة دعم العلماء وإسنادهم، وليس العكس. كانت جائحة فيروس “كورونا” كارثة مريعة بكل المقاييس، بيد أنها خلقت فرصة عظيمة غير متكررة للتعلّم من تجاربنا وإخفاقاتنا. وإنني مندهش على الدوام من قِلّة ما يتعلمه الناس من الفشل!