أهنّىء عموم اللبنانيين بنجاح لبنان بالدخول إلى الحرب الدائرة في المنطقة منذ أربع سنوات والتي حاول خلالها الأشقاء والأصدقاء مساعدة الشعب اللبناني بإبعاد هذه الكأس المرّة عنه.. وكان لذلك أثمان كبيرة سياسياً ومادياً.. إلاّ أنّ تعاظم الصراع وتنوّع أدواته العسكرية الخشنة والاقتصادية الناعمة.. بالإضافة إلى جولات متنوعة من المفاوضات والمؤتمرات للأصدقاء وتبادل الخدمات بين الدول الكبرى.. المتنازعة شكلاً والمتّفقة مضموناً.. أدخلت لبنان إلى هذا الصراع.. ولن نتوسع بذكرها الآن لأنّه لم يعد مفيداً بعد أن أصبح من الواضح أنّها كانت مسكّنات أو مهيّجات من أجل تأجيج الصراع حتى بلغ مداه مع ظهور داعش والتحاق العراق بالحريق السوري بعد سنوات كان العراقيّون يعتقدون فيها بأنّهم يديرون النزاع في سوريا..
لا أتوقع أن يجد كلامي آذان صاغية لأنّ معظمنا في حالة غيبوبة عالية لا تجعلنا نستشعر بالخطر الشديد الذي يتهدّد لبنان.. وقد كانت السّنة الماضية مثالية في إعطاء معظم المجموعات السّياسية جرعات مكثّفة من تلك المسكنات.. وكانت كلّ المجموعات تحاول قراءة ما يجري حولنا على أنّه سيكون في مصلحة هذا الفريق أو ذاك.. فالبعض يرى في النموذج الكردي مثالاً يمكن أن يتكرّر في لبنان دون أن يدركوا بأنّ هذا كان نعمة على الأكراد قبل أعوام ولكنه الآن أصبح نقمة عليهم.. ومن سخرية القدر أنّ الأكراد يقاتلون اليوم من أجل عروبة العراق ووحدته.. ويذهب آخرون إلى الإعتقاد بأنّ جمهورهم قادر على دفع كلفة طموحات الآخرين.. وهذا الإعتقاد يفتقد إلى اعتبار هؤلاء المواطنين بأنّهم بشر يتألمون ويحبّون العيش بسلام.. فيما يعتقد وفريق آخر أيضاً من اللبنانيين بأنّ خسارة الآخرين هو ربح له.. وهذا الجنون بحدّ ذاته لأنّهم سيدفعون ثمن تلك الخسارة من استقرارهم واقتصادهم..
رسمياً أعلنتْ الحكومة دخول لبنان الحرب على الإرهاب بعد العمليات الإرهابية والأمنية.. وهي حرب لم ينتصر فيها أحد منذ الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ في أميركا.. فنتائج إحتلال أفغانستان والعراق واضحة.. وكذلك نظرية الفوضى الخلاّقة التي كانت نتائجها أوّلاً في مجتمعات أميركا وحلفائها.. لأنّهم هم من سيقولون «آخ» أوّلاً لأن الفوضى أصابت أنظمتهم وحرياتهم.. فيما نحن في هذه المنطقة فليس لدينا نظم أو حريات.. وأنّ الفوضى التي أسّس لها وعد بلفور قبل مئة عام جعلت من شبابنا يفضّلون الموت على الحياة منذ عقود طوال..
علينا الإعتراف بهذا الخطر الشديد و بأنّنا لا نملك أبسط أسباب المناعة.. وهذا لا يحتاج إلى إثبات.. فمجرد متابعة نشرة اخبار واحدة من أي قناة لبنانية حتى ندرك مدى الإنهيار السياسي.. والأخطر من ذلك هو الإنهيار الأخلاقي.. أي منظومة القيم الوطنية الجامعة.. والحقيقة أنّ المناخ العام هو أنّ كلّ مجموعة تعتقد بأنّها أمة بحدّ ذاتها.. وإذا أردتُ أن أكون صادقاً.. وهذا غير مفيد على المستوى الشخصي.. إلاّ أنّ مستوى الخطر الذي يتهدّدنا جميعاً يجعل من السلامة الفردية وهم كبير.. ومن هنا علينا أن يكون كلامنا مباشر وصريح.. وهو أنّ القادة يفكرون باعتبار لبنان دولة الأمم المتحدة اللبنانية على حساب ثروة ما تحت بحرية.. فبعد أن استهلكوا الموارد الأرضية ونفاياتها والمناخية والفضائية الخليوية جاء الآن دور الثروة ما تحت البحرية.. من الغاز والنفط.. وبدون التفكير بكلّ ما يتهدّد لبنان ومستقبل أجياله..
الإرتجال سيد الموقف.. وأنّ أوامر العمليات التي أعلنت خلال الايام الماضية وفي كلّ اتجاه.. داعشياً وسورياً وإسرائيلياً وايرانياً.. ومعها انخفاض اسعار النفط.. وبالتّزامن مع أحداث باريس وبلجيكا والحبل على الجرار.. قد أدخلت لبنان في تلك الصراعات المدمّرة والبغيضة.. وهذا ما جعلنا نتريّث في الأسبوع الماضي في التوسع بالحدث الفرنسي الذي سيتعاظم يوماً بعد يوم وخصوصاً بعد صدور العدد الجديد لشارلي إيبدو.. وبنفس الإساءات إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام.. إذ كان عدد قرّاء تلك المجلة الهزيلة ستة آلاف قبل العملية الإرهابية.. والآن فقد أصبح ستة ملايين وبست عشرة لغة عالمية.. كما فُقد هذا العدد من الاسواق في اليوم الأول من صدوره..
اسرائيل لم تعد في موقع المتفرّج ولم تعد العمليات على غزة كافية كما في المرات السابقة.. فبعد هذه التطورات الدولية والإقليمية والسّخط الشعبي لدى الرأي العام الاوروبي والدولي من العرب والمسلمين فإنّها تعتبر ذلك فرصة مثالية للعمليات الكبرى والتموضع في الصراعات الداخلية مباشرة وتحت سقف انتخاباتها في 17 آذار القادم.. كما كان الوضع عشية محاولة إغتيال السفير الاسرائيلي في لندن عام ٨٢.. والذي حدث بعد تسليم طابا لمصر.. وإتمام عملية السلام مع مصر.. والرضى الدولي على إسرائيل.. فكانت نتيجته إجتياح لبنان واحتلال عاصمته بيروت وبقاء الاحتلال حتى نهاية القرن العشرين العام ٢٠٠٠.. ولهذه الأسباب عادت لغة التهديد لإسرائيل في الخطاب السياسي اللبناني والحديث عن الأسلحة الاستراتيجية واعتبار الجبهة السورية واللبنانية واحدة.. وعلينا أن نصدّق الخطابات التي تتحدث عن إحتمالات الحرب مع اسرائيل.. وطبعاً اللبنانيّون آخر من يفكر بالأخطار التي ستنجم عن ذلك وعلى الجميع بدون استثناء..
إنّ نصف العلاج هو الإعتراف بالمرض وهذا غير موجود حتى الآن.. لأنّ بعض اللبنانيين يتصرّفون على قاعدة «مجبر أخاك لا بطل» وليس لديهم أي خيار في ذلك وهم غير قادرين حتى على النقاش.. وآخرون متوهّمون بأنّ خسارة الآخر هي ربح لهم مع أنّ الخاسر بكلّ الأوجه هو لبنان واللبنانيين.. ولدينا من الشّواهد والتجارب القريبة والبعيدة ما يؤكد من أنّ ما من رابح في أي خسارة وطنية.. ومعنى ذلك كما يعرف كلّ صنّاع السياسة أنّ لبنان الآن بدون أخلاق وطنية أي بدون محرمات.. وهذا ما أثبتته موجة عدم الأخلاق الغذائية في الأيام الماضية..
إنّ مواجهة كلّ تلك المخاطر والويلات لا يكون إلا بثورة أخلاقية لا يخجل فيها اللبناني من أخلاقه الوطنية وخوفه على وطنه الوحيد.. لبنان..