في أدراج مجلس النواب اقتراح قانون يعِد بفتح «دكانة» جديدة اسمها «نظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة الإلزامية». النظام ليس شاملاً كما يرد في العنوان، إنما هو يروّج بأنه سيغطّي أولئك الذين ليس لديهم صندوق ضامن يغطّيهم، وإلزاميته ليست واضحة المعالم، بل يكاد يكون اختياراً إلا إذا كان المقصود أنه سيكون إلزامياً وفق النمط نفسه الذي يحصل في وزارة الصحة، أي أن يقدّم كل من ليس لديه تغطية صحية مستنداً يثبت ذلك ليحصل على تغطية وزارة الصحة. اقتراح كهذا ينشئ صندوقاً جديداً ستختلف قوى الحكم على تزعّمه وعلى آليات تمويله، وسيكون مسرحاً للزبائنية التي يديرها القطاع الخاص، مثل نماذج كثيرة شهدها لبنان.تشير الأسباب الموجبة للاقتراح إلى أنه يأتي نتيجة عجز الدولة عن القيام بمهام التغطية الصحية عبر وزارة الصحة، ولا سيّما لجهة تأمين أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، فضلاً عن الوصول إلى تأمين الحد الأدنى من التغطية الصحية لنصف الشعب اللبناني عبر إنشاء نظام الرعاية الصحية الشاملة في وزارة الصحة. لكن النقاشات في اللجان النيابية، «تطوّر» الأسباب الموجبة نحو إعفاء الدولة من مسؤوليتها في إدارته وتسليمه للقطاع الخاص قبل ولادته. وبذلك، ستلغى فكرة توحيد الصناديق الضامنة وتوحيد وخفض العقود مع المستشفيات والصيدليات، وسيتعمّق مبدأ التعدّدية في التغطية الصحية وتوسيع منطق الزبائنية.
بالفعل، يقولها بصراحة رئيس لجنة الصحة النيابية النائب بلال عبد الله: «نريد الوصول إلى تأمين تغطية صحية للبنانيين المكشوفين صحياً، الذين لا ينتمون إلى أي مؤسسة ضامنة رسمية مثل الضمان الاجتماعي، أو تعاونية الموظفين، أو الطبابة العسكرية… ولا قيمة الآن للبحث في توحيد الصناديق الضامنة لأنّ الأولوية تأمين التغطية الصحية المفقودة». كلام رئيس اللجنة مع «الأخبار» أتى في ختام اجتماع للجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان المشتركة لمتابعة اقتراح القانون الرامي إلى إنشاء نظام الرعاية الصحية الشاملة، وناقشت اللجنة في اجتماعها الصيغة شبه النهائية لإدارة النظام، على أن تناقش الاجتماعات المقبلة آلية عمل اللجنة، وصلاحياتها، واستقلاليتها المالية والإدارية.
النقاش في نظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة يتقدم، بحسب عبد الله، إذ جرى تغيير عدّة مواد في النسخة الأولى لمشروع القانون، أهمها إدارة النظام التي ستنقسم إلى جزءين. الجزء الأول يتألف من هيئة رسمية إدارياً ومالياً يعيّن أعضاؤها بمراسيم حكومية، وتكون خاضعةً للهيئات الرقابية، أما الجزء الثاني والمتعلق بالإدارة التنفيذية لنظام الرعاية الصحية، فتتولاه شركة خاصة تتعاقد معها الدولة وفقاً لقانون الشراء العام، علماً أن إدارة النظام، بحسب النسخة الأولى من الاقتراح، كانت بيد لجنة مؤلفة من عدد من المديرين العامين ورؤساء الدوائر في وزارتَي الصحة والمالية. وبحسب عبد الله «هناك شركات متخصّصة في إدارة التأمينات الصحية معروفة باسم TPA، تقوم بالعمليات التنفيذية على الأرض وتستخدمها النقابات لإدارة صناديقها الصحية، مثل نقابة المهندسين في لبنان، وهي غير شركات التأمين»، ورأى عبد الله في هذه الآلية «شفافية أعلى».
وأمام عقبة التمويل، أقرّ عبد الله بـ«عدم كفاية الموازنة وحدها للتغطية، لذا تحاول اللجنة إيجاد طرق تمويل أخرى كفرض رسوم متخصصة تحوّل وارداتها لتمويل نظام التغطية الصحية الشاملة». وهنا أفرد مشروع القانون في الفصل الثالث منه 5 مواد تحدّد مصادر مختلفة للتمويل، لكنّها لم تحدّد نسب مساهمة كلّ منها في تمويل النظام. فهل سيكون الاعتماد الأساسي على مساهمات تلحظ في الموازنات العامة، أم على تبرعات ومنح واشتراكات؟ كما لا تتضمن المواد المتعلقة بالتمويل آليات تؤمن توليد الواردات واستدامتها، وليس هناك دراسات مالية تحدّد القيمة المناسبة للواردات لإنشاء النظام.
49% من اللبنانيين توفّر لهم 6 جهات ضامنة تغطيةً صحيةً متفاوتة طبقياً
وبحسب مقترح القانون، يموّل النظام أولاً من الضريبة على الثروة التي تفرض على الأشخاص والشركات المقيمة في لبنان، وتراوح نسبتها من 0.25% حتى 1%، وفقاً لحجم الثروة. ثانياً، يضاف رسم على عقود التأمين الإلزامية لمصلحة نظام الرعاية الصحية الشاملة. ثالثاً، إضافة رسم على منتجات التبغ والتنباك ومشروبات الطاقة والمشروبات الروحية ومستحضرات التجميل يراوح من 25% حتى 100%. رابعاً، فرض رسم نسبته 5% على أرباح مؤسسات تحويل الأموال، ورسم نسبته 1% من قيمة كل صفقة من صفقات اللوازم والأشغال والخدمات المبرمة ما بين الدولة وأيّ شخص آخر.
هذا الاقتراج يلغي كل مفاعيل معركة توحيد الصناديق الضامنة التي انطلقت قبل سنوات، وهو يلغي تلك المعركة التي أطلقها الوزير السابق شربل نحاس يوم اقترح مشروع التغطية الصحية الشاملة المجانية المموّلة من الضريبة. اقتراح نحاس، كان مبنيّاً على توحيد الصناديق كلّها، وتوحيد تمويلها، وتوحيد تقديماتها ضمن حدّ أدنى لكل المقيمين في لبنان، لا أن تبقى كل «الدكاكين» مفتوحة، ويضاف إليها «دكانة» جديدة. والخصخصة لم تكن مطروحة في هذا المشروع الذي يفترض أن يكون عبارة عن خدمة عامة تقدّمها الحكومة، لا أن تتحكّم بها أيادي أصحاب الرساميل وعقول القطاع الباحث عن الربحية.
التغطية انهارت قبل الأزمة
بحسب دراسة للجامعة الأميركية حول اقتراح القانون الرامي إلى إنشاء «نظام الرعاية الصحية الأولية الشاملة الإلزامية»، فإنه قبل الأزمة بلغ إنفاق الأسر على الصحة 33% من إنفاقها الشخصي، أي أعلى من الحدّ المعياري الذي تبلغ نسبته 15% وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وأشارت الدراسة إلى أنّ 51% من الشعب اللبناني خارج أيّ مظلّة صحية، ما يعني أنّ 49% من اللبنانيين توفّر لهم 6 جهات ضامنة تغطيةً صحيةً متفاوتة طبقياً. على سبيل المثال، المرضى الذين يعالجون على حساب الضمان الاجتماعي لا يزالون من دون تغطية صحية حقيقية، فيما المضمونون على حساب تعاونية موظفي الدولة أفضل بأشواط.