“دسنا على قلوبنا من أجل مصلحة أبنائنا”
أولاد لا يزال عودهم طرياً، يعيشون في كنف الأهل وتحت أجنحتهم، ينسلخون فجأة عن دائرة الأمان التي أحاطوا أنفسهم بها، عن الأهل والرفاق والحي وكل ما يحبون لينزرعوا باكراً في بلد بعيد لا يشبههم. طلاب أنهوا سنتهم الثانوية الأخيرة، احتفلوا فرحوا وحزموا حقائبهم للرحيل نحو سنة جامعية أولى بعيداً عن كل ما عرفوه في حياتهم. أهل اصطحبوا «صغارهم» الكبار إلى أرض المطار، ودّعوهم بشجاعة، رحّلوهم إلى حيث المستقبل وابتلعوا الدمع.
قصة تتكرر بوتيرة مطردة مع مطلع كل عام جامعي منذ العام 2020. هجرة من نوع جديد أبطالها صغار بالكاد يلامسون أرض البالغين. يخرجون من لبنان أطفالاً ليواجهوا وحيدين تحديات انسلاخ وتأقلم صعبة، تاركين خلفهم اهلاً خائفين قلقين يتعلقون بشاشة هاتف ونقرة رسالة صوتية تقصر المسافات لكنها لا تطفئ الشوق. تجارب قاسية يرويها الأهل ويحللها الخبراء.
الباحث التربوي ومدير مؤسسة وزنات للاستشارات د. سمير قسطنطين يرى في هذا الانسلاخ المبكر أمراً غير صحي ويقول إنه ومنذ نهاية العام الدراسي 2019-2020 ازداد عدد الطلاب الذين يرغب أهلهم بإرسالهم للبدء دراستهم الجامعية خارج لبنان لاعتقادهم بأن حياتهم في الخارج أفضل لهم لا سيما بعد بدء الأزمة المالية والانهيارات المتتالية. «شخصياً أعتقد أن الغربة في عمر مبكر ليست صحية وهذا الانسلاخ السابق لأوانه عن الأهل والوطن يحمل عواقب لا مفر منها» يقول قسطنطين.»في الأزمات الكبرى يبرر الشباب لأنفسهم فكرة الرحيل عن الوطن وفي لبنان ألف سبب وسبب لتبرير ذلك لكن حين تعود الأمور الى وضعها الطبيعي تجدهم يندمون على قرارهم».
« الهجرة التي رافقت لبنان وشهدت موجات متتالية تغيرت أوضاعها. والأهل الذين هاجروا الى الغرب سابقاً لإتمام دراستهم يجدون اليوم أن هذا الغرب لم يعد كما كان عليه في أيامهم وأن مفاهيم جديدة طرأت عليه خاصة تلك التي تتعلق بالعائلة واقتحمت البيوت وصار قبولها بدون أي نقاش متوقعاً من الجميع. اللبنانيون الذين هاجروا سابقاً لم يواجهوا هذا الشعور أما اليوم فالأمر اختلف حتى أن بعض العائلات ترغب بالعودة الى لبنان لحماية أولادها رغم أن عقلها يحذرها من مخاطر العودة الى بلد ينام ويستيقظ على المشاكل. فيما بعض العائلات تشعر بأنه من المبكر جداً تعريض أولادها لهذه المفاهيم المستجدة لأنهم غير مهيئين للتعاطي معها».
المستوى الجامعي في لبنان يقول الخبير التربوي لم يتأثر بالأزمة بشكل سلبي ما خلا بعض الجامعات الرسمية أو الخاصة لذا فإن تحصيل الإجازة الجامعية في لبنان في جامعة محترمة هي فكرة منطقية. «لا أظن أن أحداً من خريجي هذه الجامعات قد ندم على خياره. أما بالنسبة للماستر فلا شك أن للجامعات اللبنانية قيمتها ومستواها لكن الحصول على نكهة عالمية أمر مطلوب بالنسبة لطلابنا. من جهة أخرى لا خوف حقيقياً على من هاجر وهو في 22 من عمره وما فوق من عدم العودة الى الوطن أما خطر الهجرة الدائمة فهو أكبر بكثير عند من يذهبون الى الخارج ولم يتجاوزوا الثامنة عشرة من عمرهم».
بداية قاسية
لم يكن ذهاب الشابة رشا بزيع الى فرنسا لمتابعة دراستها الجامعية بالأمر السهل عليها أو على والديها فهي الطفلة المدللة في بيتها وبين عائلتيها الصغيرة والكبيرة تعيش تحت عين الأهل الساهرة دوماً على راحتها ورفاهيتها وأمانها. قضت رشا أشهراً في بداية انتقالها الى مونبولييه بالبكاء فكل شيء جديد هناك عليها، الجامعة والمجتمع والرفاق وحتى النظام والقوانين. تشجيع الأهل المتواصل وإصغاؤهم الى مخاوفها كان سبيلها للخروج من حالة الإحباط. فهم الذين دفعوها لإقامة صداقات بين رفاقها وعدم الانزواء وكانت تلك انطلاقتها لكسر حاجز الوحدة والشوق الى الأهل والخوف من الغربة للانتقال نحو حياة جامعية ما لبثت أن حملت إليها الكثير من الرضى. لكن الأمر تطلب أكثر من زيارة الى لبنان وهو أمر تنصح به والدتها ريما كل أهل قائلة «حتى لو كانت كلفة الزيارة ثقيلة فهي جرعة امل وعزيمة نقدمها إليهم ليتمكنوا من الاستمرار»
«لم يكن قرار إرسالها الى فرنسا سهلاً تقول ريما لكنه ضروري فرضته ظروف البلد. حاولنا إرسال أخيها قبلها الى الجامعة اللبنانية لكن الجامعة كانت تمر بظروف صعبة جداً فاضاع سنته الأولى وسط إضرابات متكررة فكان القرار بالسفر للدراسة في الخارج. حين أتى دور شقيقته وجدنا أن لا مقومات حقيقية تشجع على بقاء الطالب في لبنان، فوضع الجامعة اللبنانية لا يزال على حاله والجامعات الخاصة اقساطها تكوي والوضع الأمني غير مستقر، فالعودة مساء الى البيت على طرقات لا إنارة فيها مثلاً ومن دون وجود نقل مشترك يستفيد منه الطلاب محفوفة بالمخاطر. ومن جهتنا كأهل لا يزال في خلفية تفكيرنا أن شهادات الجامعات الفرنسية قيّمة ومعتبرة وتخلق فرص عمل للخريجين… رغم كونه منطقياً، كان قراراً قاسياً مجبولاً بالخوف، فالبعد صعب والقلق من عدم عودة الأولاد سوسة دائمة تنخر في رؤوسنا. دسنا على قلبنا من أجل مصلحة أولادنا».
مادياً وبعد حسابات دقيقة يجد الأهل أن الإقامة في الخارج والالتحاق بالجامعات الحكومية يبقيان أقل كلفة من أقساط الجامعات الخاصة المعتبرة في لبنان. فهنا يدفعون القسط الجامعي ومعيشة الأبناء وتكاليف تنقلاتهم المرتفعة نظراً لعدم وجود نقل مشترك موثوق، فيما هناك يدفعون كلفة السكن والمعيشة ليس إلا. حسابياً الأمر محسوم لكن عاطفياً وحتى لوجستياً يبقى في غاية القسوة مهما حاول الأهل تعبيد الطريق وتسهيل الأمور أمام ولدهم.
«ابني الأصغر اتخذ قراره بالسفر الى فرنسا لمتابعة دراسته الجامعية هناك يقول جورج. الولد الذي كان النسكافيه يأتيه الى الفراش ولا يعرف كيف يحضر لنفسه سندويشاً أراد أن يكمل طريقه وفق ما رسمها لنفسه لكن لم تخطر بباله كمية التحديات التي ستواجهه هناك في مدينة غرونوبل في فرنسا. البداية كانت في منتهى الصعوبة بالنسبة إليه وإلينا فهو صغير البيت ولم يكمل عامه الثامن عشر بعد، اختار مدينة بعيدة عن باريس حيث معظم اللبنانيين والرفاق. عاش الاشهر الأولى و»عيّشنا» معه قهراً مطلقاً، رغم أنه كان يسعى الى أن يبدو قويا ومتماسكاً أمامنا. ثم شيئاً فشيئاً تحسنت الأمور وتعلم الطهو والاهتمام بمنزله ومعيشته. وبعد سنة صعبة «قلّع» وعاد إلينا هذا الصيف رجلاً بعد أن غادرنا صبياً. ربحنا مستقبل ولدنا بعيداً عن بلد ما عاد قادراً على تأمين أي شيء لهم».
السكن، تحويل الأموال، الحساب المصرفي من التحديات الكبرى التي يواجهها الطلاب في الخارج. في فرنسا التي يقصدها معظم الطلاب اللبنانيين وفي باريس كما في المدن المصنفة جامعية السكن هو التحدي الأصعب و قد يجد الطالب بعد وصوله هناك للالتحاق بالجامعة أنه غير قادر على إيجاد سكن خاص به. إحدى الشابات اللبنانيات اضطرت للمبيت أسبوعين في دير للراهبات حتى وجدت غرفة لها. وتروى أخباراً عن طلاب باتوا لياليهم في الشارع قبل إيجاد سكن.
أما تحويل الأموال من لبنان الى الخارج فتلك مشكلة كبرى يواجهها الأهل الذين ارتضوا العمل بوظيفتين وثلاث لتأمين الحد الأدنى المطلوب. «500 يورو تحتاجها ابنتي شهريا للسكن والمصروف، كيف أؤمنها؟ وكل تحويل من هنا ندفع عليه 25$ لذا صرنا نترقب المسافرين لنرسل معهم المبلغ المطلوب».
تحديات ومزايا
مغادرة المنزل والدراسة في الخارج خلال السنة الجامعية الأولى يمكن أن تكون تحدياً ومكافأة للمراهقين تقول دارين عماش المعالجة النفسية ومؤسسة تطبيق Mindsome ومديرته التنفيذية. في لبنان المراهقون الذين يمكنهم السفر إلى الخارج لاستكمال دراستهم العليا محظوظون فيما البقاء في بلد يعاني من انعدام الخيارات لمستقبلهم، المشاكل المالية التي يواجهونها أمر صعب ومحبط. فالطلاب لا يغادرون فقط بسبب الضرورة، بل لأنهم يرغبون في ذلك أيضاً. رفاقهم لم يعودوا في البلاد، لذلك فالبقاء في بلدهم يعني أنهم يفوتون على أنفسهم الفرص. ولكن بالطبع، بعد اتخاذ قرار السفر، يأتي وقت مواجهة الواقع. المراهق الذي كان في السابق طفلاً تتم العناية به، هو الآن يعتني بنفسه وباحتياجاته الخاصة. بعضهم يفشلون في إدارة الأمور، وقليل منهم ينجحون في أن يصبحوا مستقلين.
الصعوبات التي يواجهها هؤلاء الطلاب الشباب متعددة المصادر أولاها التكيف الثقافي، فقد يواجهون صدمة ثقافية أثناء التكيف مع عادات وقيم اجتماعية جديدة يمكن أن تكون مختلفة تماماً عن تلك في بلدهم، ما يمكن أن يؤدي إلى مشاعر العزلة والارتباك. وقد يحتاجون الى وقت للتكيف مع نظام تعليمي جديد واحياناً تخطي حواجر اللغة، كما أن تكوين صداقات جديدة وبناء علاقات اجتماعية في بلد أجنبي يمكن أن يكونا صعبين، خاصة إذا كان هناك عائق لغوي أو اختلافات ثقافية. ويمكن للبعد عن العائلة والبيئة المألوفة أن يثير الحنين الحاد للوطن خصوصاً في السنة الأولى من الجامعة. وأخيراً تشكل إدارة الأمور المالية وإعداد الميزانيات تحدياً للشباب الذين يعيشون بشكل مستقل لأول مرة.
هل يعودون؟
لكن هذه التجربة يمكن أن تحمل مزايا كثيرة فتكون الدراسة في الخارج تجربة محورية تعزز استقلالية الطالب، وثقته بنفسه، وقدرته على التكيف. كما تعرضه لثقافات وآراء مختلفة توسع آفاقه وفهمه للقضايا العالمية، وتكسبه مهارات لغوية وتفتح أمامه الأبواب فيما بعد لفرص عمل دولية.
للتخفيف من ألم الانفصال تنصح المعالجة النفسية دارين عماش الأهل بالحفاظ على التواصل الدوري مع أبنائهم من خلال المكالمات والرسائل ومكالمات الفيديو للبقاء على اتصال وتقديم الدعم العاطفي. ولكن الأهم أن يدركوا أن أبناءهم ينمون ويتحولون إلى بالغين مستقلين وعليهم أن يثقوا في قدراتهم وقراراتهم، حتى إذا ارتكبوا أخطاء في الطريق.
ومن الأمور العملية ترتيب زيارات لرؤية الأبناء خلال العطل إذا كان ذلك ممكناً للحفاظ على الروابط العائلية. وتشجيعهم من جهة أخرى على بناء نظام دعم في بيئتهم الجديدة، سواء من خلال زملاء الدراسة أو المنظمات المحلية.