سجعان القزي
من حقِّ الشعبِ أنْ يَشمئزَّ من نوعيّةِ التحالفاتِ الانتخابيّة. فاللوائحُ نوعان: نوعٌ مُـنزَلٌ على الناسِ في المجتمعِ الشيعيّ، وآخَرُ مُشَتِّتٌ الناسَ في المجتمعاتِ المسيحيّةِ والسُنيّةِ والدُرزيّة. في المجتمعِ الأوّلِ اتّفقوا مِن فَوق فأَخضَعوا مَن هم تحت، وفي المجتمعاتِ الأُخرى اختلفوا مِن فوقُ فَفرّقوا بينَ مَن هُم تحت. في المجتمعِ الأوّل اتّفقوا على المبادئِ والمشروعِ الشيعيِّ فأمَّنوا المصالحَ، وفي المجتمعاتِ الأُخرى اختَلفوا على المصالحِ والمقاعدِ على حسابِ المشروعِ الوطنيّ.
التحالفاتُ الانتخابيّةُ المفْجِعةُ في المجتمعَين المسيحيِّ والسُنّيِ، وبدرجةٍ أقلَّ في المجتمعِ الدُرزي، هي نتيجةُ سقوطِ التحالفاتِ السياسيّةِ الكبيرة (المستقبل و14 آذار، الكتائبُ والقوّات، القوَاتُ والتيّار، والتيّارُ والمرَدة). والدليلُ، أنَّ اللوائحَ النيابيّةَ في المجتمعِ الشيعيِّ حافظَت على تَجانُسِها لأنَّ التحالفَ السياسيَّ بين «أمل وحزب الله» لا يزالُ قائمًا. هكذا، بَدَت القياداتُ الشيعيّةُ حريصةً على وِحدتِها ومجتمعِها وناسِها وشهدائِها أكثرَ من قياداتِ الطوائفِ الأُخرى.
وعِوضَ أنْ تَـقتنِصَ الوجوهُ التغييريّةُ الفرصةَ الذهبيّةَ المتاحَةَ وتُقدِّمَ نفسَها خِيارًا بديلاً عن هذا التَخبُّط، تَبعثَرت في ما بينهَا من جِهةٍ، وانسَلَّ بعضُها إلى لوائحِ التقليديّين «سَدَّ حاصِلٍ» من جِهةٍ أخرى. فأضاعَت هذه الوجوهُ فرصتَها وصِدقِـيَّتها كما أَجْهضَت مشروعَ التغييرِ الوطنيّ، فإذا بجريمتِها لا تَقِلُّ أذًى عن جريمةِ الطبقةِ السياسيّة.
وقِمّةُ الغَرابةِ، أنَّ القِوى المرشَّحةَ، أكانت تقليديّةً أم حزبيّةً أم جديدة، قَــدَّمت ــ مُتفرِّقةً ــ برامجَ انتخابيّةً وكأنّها في الدولِ الإسكندنافيّة، فيما ــ مجتمِعةً ــ في المجلسِ النيابيِّ والحكومةِ والحكمِ طَوالَ ثلاثينَ سنةً، لم تُؤمِّن الماءَ والكهرباءَ والطُرقاتِ ورفعَ النفايات. مِـمَّنْ تَسخَرون؟ وعلى مَن تَضحَكون؟ وأصلاً لم يُصدِّقْــكُم الشعبُ.
تجاهَ سقوطِ التحالفِ الوطنيِّ الجامِع، ضاعَت المعاييرُ السياسيّةُ ــ والأخلاقيّةُ أوّلاً ــ وصارَ كلُّ مرشَّحٍ يحاولُ إنقاذَ نفسِه وحَصْرَ الضررِ والبحثَ عن مَلجأِ طوارِئ. بعدَ الثورةِ الفرنسيّةِ (1789)، مرّت فرنسا بمرحلةِ تَقلّباتٍ دستوريّةٍ بين انتهاءِ المَلَكيّةِ وتَبعثُرِ الثورةِ وسقوطِ الإمبراطوريّةِ، فتَمايَلت مرّاتٍ بين مَلَكـيّةٍ عائدةٍ وجُمهوريّةٍ ناشئةٍ، فضاع السياسيّون والعسكرُ والنبلاءُ والبورجوازيّونَ والإكليروس والنخبُ والطبقاتُ الشعبيّةُ، وسَعى كلُّ طرفٍ إلى أنْ يَحميَ رأسَه.
سادت الفوضى: مَن كان مَلكـيًّــا صباحًا تحوَّلَ جُمهوريًّا ظُهرًا وأَمْسى ثورويًّــا مساءً؛ فنشأت عبارةُ «دَوَّارِي الهواء» (les girouettes)، ونَظَّم الشعبُ سهَراتٍ راقصةً باسمِ «le bal des girouettes». وسنةَ 2005 أصدرَ المؤرِّخُ الفرنسيُ «بيار سيرنا» Pierre Serna كتابًا عن تلك المرحلةِ بعنوان: «جُمهوريّةُ دوّاري الهواء» (La république des girouettes 1789-1815 et au-delà).
لكنَّ سقوطَ التحالفاتِ السياسيّةِ في لبنان لا يُحلِّلُ إنكارَ الذاتِ والتخلّي عن القيمِ والتنكّرَ للمبادئِ وخيانةَ المصيرِ الوطنيّ، فنحن لسنا في زمنِ الثورةِ الفرنسيّةِ وقطعِ الرؤوسِ على المِقصَلة. أسَمعتُم أنَّ مرشّحًا تَـلقّى تهديدًا؟ نَسمعُ أنَّ مواطنينَ يَتلقَّونَ أموالاً، ومرشحين يَتسوَّلون مقاعدَ في لائحةٍ، ولوائحَ تَستجدي أشباهَ مرشَّحين ومرشَّحات.
على سبيلِ المِثال: هل خُروجي من حزبِ الكتائب يُبرِّرُ تحالفي مع مرشَّحِي الحزبِ السوريّ القوميِّ وحزبِ البَعثِ وحزبِ الله؟ فالحزبُ القوميُّ، علاوةً عن مسؤوليّتِه في اغتيالِ الرئيس بشير الجميل، ينادي بــ«سوريا الكبرى»، وأنا أنادي بــ«لبنانَ الكبير». وحزبُ البعثِ يَعتبر لبنانَ قُطرًا سوريًّا، وأنا أعتبرُ العالمَ كلَّه قُطرًا لبنانيًّا. وحزبُ الله يؤمن بازدواجيّةِ السلاحِ، وأنا أؤمِنُ بسلاحِ الجيشِ اللبنانيّ فقط. أحرارٌ بِما يؤمِنون، لكنَّ «لهم لائحتَهم ولي لائحتي».
وبالتالي، لا انتخبُ لائحةً تَـمُتُّ بصلةِ القُربى المباشَرةِ أو التحالفيّةِ إلى أيِّ طرفٍ يَحمِلُ مشروعًا يُخالِفُ مبادئي الوطنيّةَ ولو ضَمَّت أصدقاءَ أَتمنّى انتخابَهم. وحبّذا لو يَلتزمُ كلُّ مواطنٍ مبادِئَه معيارًا قبلَ أنْ يُـقرِّرَ الانتخاب. لقد حَشروا الشعبَ في الزاويةِ، بحيث لم يَعد أمامَه سوى مقاطعةِ الانتخابِ أو تأنيبِ الضمير.
لكنَّ الواقعيّةَ تَقضي الإشارةَ إلى أنَّ سببَ واقعِ الحالِ الانتخابيِّ يعودُ إلى أربعةِ أسبابٍ أساسيّة: قانونُ الانتخاباتِ الجديد، التسويةُ الرئاسيّةُ، طبيعةُ الحياةِ السياسيّة اللبنانيّة، وهُوّيةُ الطبقةِ السياسيّةِ القائمة.
1- وُضِعَ قانونُ الانتخابِ الجديدُ على أساسِ تحسينِ عدالةِ التمثيلِ المسيحيّ، فإذا به يُضعِفُ التمثيلَ المسيحيَّ ويُشرذِمُه ويُـؤسِّسُ لتكتّلاتٍ نيابيّةٍ لاحقةٍ قابلةٍ للتفكّك. فالقانونُ الجديدُ «يُقسِّمُ المقَسَّم»، يُحوّلُ الحليفَ خصمًا، يَضرِبُ مفهومَ اللائحةِ، يَقضي على التجانسِ السياسيِّ، ويُعطِّلُ قيامَ نظامٍ حزبيٍّ يؤمِّنُ تداولَ السلطةِ بين أكثريّةٍ ومعارضَة.
2- التسويةُ الرئاسيّةُ أدَّت إلى انهيارِ التحالفاتِ الشفّافةِ التي قامت سنةَ 2005 من دونِ ولادةِ تحالفاتٍ طبيعيّةٍ أُخرى سنةَ 2018. أَسقطَت التسويةُ مرجِعيّةَ المبادئِ الوطنيّةِ المتجانسَةِ لمصلحةِ عَلاقاتٍ متنافِرة. ولا أدري إذا كان الّذين خَانوا مبادئَ 14 آذار، يُدركون مدى الضَررِ الذي أَلحقوه بلبنان، وبأنفسِهم قريبًا.
3- طبيعةُ الحياةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ، بحدِّ ذاتِها، لا تخلو من التقلُّبِ تاريخيًّا، لكنَّ الفارقَ هو أنَّ الخلافاتِ السياسيّةَ القديمةَ كانت تحتَ سقفِ الدستورِ والميثاق فسامَحت المتنقّلينَ ضِمنَ هذه المساحَة، فيما الخلافاتُ اليومَ خارجَهُما، لا بل خارجَ مفهومِ فكرةِ لبنانَ وسيادتِه وخصوصيّتِه، وبالتالي لا تُعطي المتقلِّبينَ أسبابًا تخفيفيّة.
4- الطبقةُ السياسيّةُ الحاليّةُ في لبنان ليست خِريجةً مدرسةِ السيادةِ والاستقلالِ والكرامةِ لتَشعُرَ بالذنبِ والخجَلِ جرّاءَ الانتقالِ من ضِفّةٍ إلى أخرى. إنها منِ رواسب حِقْبةِ الاحتلالِ والوصاية. فما عَدا بعضِ الأحزابِ والشخصيّاتِ الوطنيّة، كان الآخَرون طَوالَ ثلاثينَ سنةٍ مُياومينَ في عَنجر والبوريفاج. وها هُمُ يعودون إلى «رابطةِ القدامى»، إلى «بلدِ المَنشَأ» بعدَ نقاهةٍ في «المَطْهرِ الوطنيّ». وبالتالي لا يَشعُرون بالغُربةِ في تَموضُعِهم الجديدِ ــ القديم.
ما يَـحُــزُّ في القلبِ هو إهمالُ المواطنينَ اللبنانيّين الناقمين اللقاءَ التاريخيَّ مع التغيير، إذ لا يزالون يَنظرون إلى الاستحقاقِ الانتخابيّ من زاويةٍ ضيّقةٍ لا تَبلُغُ حدودَ الشعورِ الوطنيّ، وتَحُـزُّ في القلبِ أيضًا هو لامبالاةُ القادةِ اللبنانيّين بالواقعِ الصعبِ الذي بَلغَهُ لبنان، إذ لا يزالون يَعتبرون الاستحقاقَ الانتخابيَّ مناسَبةً لتجديدِ عمرِهم لا عمرِ الوطن. متى اليقَظَة؟