كلام في السياسة |
شهر ونصف الشهر هي المدة التي لا تزال تفصلنا عن انتخابات رئاسة التيار الوطني الحر. لكن ما كتب عنها حتى الآن يوحي كأنها بدأت منذ دهور، أو أنها ستحصل اللحظة وفي كل لحظة حتى أبد بعيد. هو سر آخر من أسرار ميشال عون. هو لغز من ألغاز ظاهرة الرجل الكثيرة والمثيرة. هي تلك الضجة الفريدة التي ترافقه. هو ذاك الصخب الذي يلازم كل خطوة وكل كلمة وكل فكرة متحدرة من ذاك الرجل المتحدر من فلاح ابن أرض.
تيمور جنبلاط ورث زعامة جماعة كاملة في يوم وموعد. استغرقت وراثته سطراً تحت صورة لقائه وفداً في قصر. انتهت المسألة وأقفل الموضوع. سامي الجميل ورث حزب الصيغة والميثاق والقضية والشهداء، بانتخاب بضع مئات من الأشخاص. كان شبه إجماع ربما على أن وراثته مستحقة. فاقتصر اللغط على مقالين وصرخة زميل. طوني فرنجيه لم يشعر أحد أنه استلم. مجيد طلال مجيد إرسلان قطع الدرب نفسه بلا شعور منا أقل … وحده ميشال عون، يثير الضجيج مهما فعل. منذ أشهر والحبر يسيل حول نظام حزبه. كلام عن تعديلات وانقلابات وتهريبات وتسريبات. حتى نهاد المشنوق، بكل ترفّعه ودرايته، كاد يستدرج إلى المسألة. قبل أعوام، لا بل منذ عقد كامل، يسيل الحبر نفسه عن انتخابات تياره، وعن انقسامات وعن انشقاقات وعن انهيارات. كأنه محور بلد. كأنه هاجس أكوان البشر كلهم.
اليوم يلهج الكتاب خلف الخبر من جديد. استحقاق 20 أيلول بات اسمه. كأن لا استحقاقات أخرى بحجم وطن ومنطقة. لا صوت يعلو على صوت: أن نحن في لبنان بألف خير… طمنونا عن انتخابات «التيار»!
لماذا هذه الظاهرة الفريدة؟ لأن المعنيين بها، قبل سواهم، تعاملوا مع ذواتهم بخجل مزمن. لأنهم تعاطوا مع فضائلهم بحياء في غير مكانه. قصة النظام الحزبي السابق لم يرووها لأحد مثلاً. كانت أشهر قليلة قد مضت على عودة الرجل المنفي. وكانت أسابيع قليلة فاصلة بين اكتساحه أصوات 70 في المئة من المسيحيين، وتطويبه زعيماً بطريركياً لهم، وبين وقوفه بين تلك المجموعة من أبنائه يناقشهم في صيغة النظام الأولى. حاوروه. جادلوه. ساجلوه. حتى طرح المسودة على التصويت. فلم يفز اقتراحه إلا بفارق بضعة أصوات. يومها لم يخرج أحد ليفاخر أمام الناس، بأن أقوى زعيم في تاريخ المسيحيين، جلس يناقش أبناءه. لم يخبر أحد بأن الظاهرة التي سكنت نصف قرن من تاريخ الوطن، عرفت كيف تتواضع لتتحاور نداً لأنداد، مع نصف أبنائه. أخفوا الأمر خجلاً. فيما هو موضع فخر وكبر.
بعدها في ذلك الثلثاء الأسود من ربيع 2008، كرروا الهفوة نفسها. جاؤوا إلى بيته، لأنه بيتهم. رفعوا أصواتهم، انتقدوا، فنّدوا وطالبوا. مثل ابن على حافة البلوغ أمام والد يمسك بيد صغيرة تعاند، ويده هو تكابد. ومرة أخرى لفلفوا الواقعة. بدل أن يفاخروا بها كل البلد وكل الشرق. من منكم يحاور زعيمه مثلنا؟ من منكم يستبطن الحرية ويستدخل الديمقراطية، حتى معارضة الرمز ومقارعة القائد ومواجهة الهيبة والمهابة والسطوة والهالة، مثلنا؟!
اليوم يعود السياق نفسه للمرة الثالثة. مزاعم وتلفيقات ولغو ولغط. ولم يخرج بعد من يحمل ورقة عون مفاخراً: هذه هو تيارنا فأتونا بمثله. لم يصرخ أحد بعد في وجه الكتبة والمرتزقين، وحتى في محاورة الصادقين والحرصاء، أن هذا هو إنجاز آخر للرجل. بدع رائد لثمانيني يختزن جوهر الشباب في كل ومضة: انتخابات مباشرة من نحو 17 ألف إنسان. 17 ألف مناضل. لا يتحكم فيهم إقطاع ولا يسيّرهم إخراج قيد عائلي، ولا يشتريهم مال ولا يبيعهم واهم. لم يجرؤ احد بعد على التحدي: من منكم يقدر على ما أقدم عليه الرجل؟ من منكم يضع تاريخه وعمر نضاله ومستقبل تعبه وتضحياته وغد أبنائه وأحفاده… يستودعها كلها في ضمائر كل ناسه، وهو مرتاح. وهو مطمئن. وهو واثق بأن رهانه لن يخيب وأن خياره سيصيب. من منكم يستفتي أبناءه، كل أبنائه، من دون ضوابط ولا علب. من منكم يفتح لهم قلبه قرع حرية في اقتراع على مساحة الوطن؟ بعضهم يرفض؟ بعضهم يتمرد؟ بعضهم يعارض أو ينتقد أو يثور؟ حتماً سيفعلون. طبعاً سيكونون كذلك. فكيف لولا ثورتهم وتمردهم تدرك أنهم أبناء عون وأنهم جيل عون؟!
يظل الأكيد الأكيد أمرين. الأول أن 20 أيلول ليس موعد انتخابات حزبية. بل هو موعد ولادة جديدة متجددة، لشرعية مشروع مشروع. وأنه في ختام هذا النهار، ستكون أبهى صورة عرفتها جماعة سياسية: آلاف مؤلفة، يعانق واحدها الآخر بفرح ودمعة. خاسر ربح مستقبلاً، يهنئ رابحاً. ورابح يتسلم العبء الكبير، ليسلم منافسه موقع الشراكة في حمل مشعل متقد أبداً. لا يمكن لواحد أن يشذ. فكلهم أبناؤه. هو من يردد كل يوم حيال «الآخرين»، مرارة إدراكه كم أن «خبزه لم يملح» مع أي ممن أعطاهم. في 20 أيلول سيتأكد أن خبزه كله حق لأبنائه، وأنهم سيكونون أهلاً له ولأجيال قادمة، على اسم جيل عون.