لم يكن الاتفاق في شأن الملفّ النووي هدفا بحد ذاته سوى لإيران من جهة وإدارة باراك أوباما من جهة أخرى. هذا ما يفسّر الى حدّ كبير الإصرار الايراني على دعوة أوروبا الى انقاذ الاتفاق الذي استطاعت استغلاله الى ابعد حدود من اجل الاستمرار في مشروعها التوسّعي. هذا المشروع القائم على انشاء ميليشيات مذهبية تكون مجرّد ذراع لـ»الجمهورية الإسلامية» التي اسّسها آية الله الخميني قبل أربعين عاما.
ليس الاتفاق في شأن الملفّ النووي الذي وقعته ايران مع مجموعة الخمسة زائد واحدا صيف العام 2015 سوى بضاعة تالفة لم تعد صالحة في عهد دونالد ترامب، وذلك من دون الذهاب الى مبالغات في الرهان على الإدارة الاميركية الحالية.
لا يمكن انكار انّ البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن والمانيا كانت ترى في الاتفاق خطوة أولى الى امام. لكنّ ما لا يمكن تجاهله في الوقت ذاته انّ ايران وحدها كانت تعتقد ان الاتفاق يمثّل جسرا نحو متابعة مشروع توسّعي غضت إدارة أوباما الطرف عنه. لم يتوقف البلدان الاوروبيان (فرنسا وبريطانيا) عن المطالبة بالذهاب الى ابعد من الاتفاق. فرنسا شدّدت خصوصا على الصواريخ الباليستية الايرانية وخطورتها فيما لم تخف بريطانيا حذرها من النشاطات الإرهابية التي تمارسها الاذرع الايرانية وصولا هذه السنة الى اعتبار «حزب الله» بجناحيه العسكري والسياسي «منظّمة إرهابية».
لا حاجة بالطبع الى توصيف الموقفين الصيني والروسي اللذين اتسما في كلّ وقت بنوع من المسايرة لإيران، فيما راحت المانيا التي توجه وزير خارجيتها هايكو ماس الى طهران أخيرا تتشدّد اكثر في اكثر في مواقفها. بدأت المانيا تكتشف ما ليس سرا منذ بداية البشرية ان الاولوية تبقى لعلاقاتها التجارية. تبقى للولايات المتحدة وليس لإيران، خصوصا في ضوء حجم التبادل التجاري الاميركي – الألماني.
في النهاية هناك قوانين جديدة للعبة منذ مزّق الرئيس دونالد ترامب الاتفاق النووي مع ايران قبل ثلاثة عشر شهرا ومنذ اتبع ذلك بفرض مزيد من العقوبات عليها كشفت هزالة الاقتصاد الايراني.
شيئا فشيئا بدأت ايران تشعر بتأثير العقوبات وبثقل الضغوط الاميركية على الاوروبيين الذين ليس امامهم من خيارات غير الرضوخ لما تطالب به الولايات المتحدة. لذلك لا معنى يذكر لكلّ التهديدات الايرانية، على الرغم من انّ هناك شبه اجماع في واشنطن على ضرورة تفادي صدام عسكري مع «الجمهورية الإسلامية». في الواقع لا وجود لشهية أميركية لحرب عسكرية مع ايران في وقت يعرف ترامب تماما ان الشعب الاميركي لا يحبّذ مثل هذه الحرب في غياب عمل استفزازي إيراني واضح يستهدف الوجود الاميركي في المنطقة، خصوصا في مياه الخليج او العراق.
في كلّ الأحوال، هناك حرب أميركية تشنّ على ايران. طابع هذه الحرب اقتصادي. ليس ما يدعو الى حرب عسكرية وصدام مباشر ما دام المطلوب توجيه رسالة واضحة الى ايران تشارك فيها دول المنطقة أيضا، على رأسها المملكة العربية السعودية التي استضافت أخيرا في مكّة ثلاث قمم (عربية وإسلامية وخليجية) دانت بوضوح شديد التصرفات الايرانية خارج حدود «الجمهورية الإسلامية».
فحوى الرسالة ان الاتفاق النووي صار من الماضي وانّه يستحيل إعادة تسويقه بمجرد إيجاد غلاف جديد له. ترامب وفريق عمله ليس أوباما والمحيطين به من أمثال مستشارته فاليري جاريت التي كانت اقرب الناس اليه والى زوجته والمعجبة كلّ الاعجاب بايران لاسباب تعود الى كونها ترعرعت فيها عندما كانت لا تزال طفلة.
من اجل نجاح الوساطة الألمانية التي يقوم بها وزير الخارجية ومن اجل ان ينجح مستقبلا رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الذي سيزور طهران أيضا، سيتوجب على ايران ان تتغيّر. لا يكون هذا التغيير بالكلام الجميل المنمّق الذي يتحدث عن اتفاق عدم اعتداء مع دول الخليج العربي. هذا التغيير مرتبط بالسلوك الايراني في كلّ بلد تمارس فيه الميليشيات التابعة لـ»الحرس االثوري» نشاطا محددا في خدمة مشروع واضح يخدم عملية زعزعة المجتمعات العربية وإيجاد خللل داخلها.
ماذا تفعل ايران في لبنان غير ضرب مؤسسات الدولة في هذا البلد الصغير الذي يعاني منذ خمسين عاما، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة، من السلاح غير الشرعي المنتشر في أراضيه؟ ماذا تفعل ايران في سوريا غير دعم نظام اقلّوي دموي يسعى، بالمشاركة معها، الى تهجير اكبر عدد من السوريين من ديارهم بهدف احداث تغيير ديموغرافي لا عودة عنه في هذا البلد؟ ماذا تفعل ايران في العراق غير السعي الى تكرار تجربة «الجمهورية الإسلامية» حيث «الحرس الثوري» الأداة الاهمّ لممارسة «المرشد» نفوذه؟ كلّ ما هو مطلوب في العراق تهميش دور الجيش الوطني كي يكون «الحشد الشعبي» في الصدارة، على ان يلعب «الحشد» دور «الحرس الثوري» في ايران.
أخيرا، ماذا تفعل ايران في اليمن؟ أي مستقبل لايّ جزء من الأرض اليمنية يتحكّم بها الحوثيون (انصار الله)؟ هل يحتاج اليمن الى مزيد من الجهل والبؤس والتخلّف وانتشارالمرض في كلّ الميادين؟ لم يقل لنا احد في طهران ما هو المشروع الاقتصادي او السياسي او البرامج التعليمية التي ينادي به الحوثيون؟
ليست المشكلة في الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني. المشكلة في نظام يعتقد ان «تصدير الثورة» علّة وجوده. لذلك لا مجال لنجاح ايّ محاولات إيرانية لاعادة تسويق الاتفاق النووي. أوروبا نفسها ليست مقتنعة بذلك إضافة الى ان الإدارة الاميركية تعرف جيدا كلّ تفاصيل السلوك الايراني في السنوات الأربعين الأخيرة.
هل لدى ايران بضاعة جديدة قابلة للتسويق غير الاتفاق النووي؟ حسنا، سعت ايران الى امتلاك السلاح النووي، ما نتيجة ذلك؟ النتيجة الوحيدة هي ادخال المنطقة في سباق تسلّح، خصوصا ان ايّ دولة ذات شأن في المنطقة لن ترضخ للامر الواقع بما في ذلك السعودية ومصر وتركيا.
خسرت ايران الحرب الطويلة التي اعتقدت انّها تخوضها مع الولايات المتحدة منذ احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران لمدّة 444 يوما في ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979. خسرت تلك الحرب لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب الى انّها لم تبن اقتصادا قويّا على علاقة بالتطورات التي يشهدها العالم من جهة ولم تستطع بناء نموذج لتجربة سياسية ناجحة يمكن ان تصدّرها الى خارج أراضيها. ليس لديها ما تصدّره سوى تجربة في اساسها ميليشيات تعث خرابا وفسادا حيثما حلّت.
تفاوضت اميركا مع ايران ام لم تتفاوض، ليست تلك المسألة. المسألة هل تتغيّر ايران وتعود دولة طبيعية من دول المنطقة مع ما يعنيه ذلك من تغيير أساسي للنظام فيها. هذا تغيير لا مفرّ منه حتّى لو كرر ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو ان الولايات المتحدة لا تستهدف احداث مثل هذا التغيير.