ليس مبرّراً قرار قطع التمويل عن «الأونروا»، حتى وإن ثبتت مشاركة عدد من موظفيها في عملية 7 تشرين الأول. والواضح أنّ هذه الخطوة تعبّر عن الرغبة المبطنة لتصفية هذه الوكالة، والتي بدأت تُترجم منذ 7 سنوات على الأقل، وجاءت حرب غزة لتمنح إسرائيل فرصةً للمضي فيها.
إذا لم تُحقّق إسرائيل إنجازها العسكري الذي تطمح إليه في حرب غزة، كمدخل إلى تصفية القضية الفلسطينية، فإنّ نجاحها في القضاء على «الأونروا» سيكون بمثابة إنجاز مُوازٍ، لأنّه يعني أيضاً تصفية القضية. والمسار في هذا الاتجاه بدأ في العام 2017، توازياً مع إطلاق «صفقة القرن» وإعلان الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
منذ ذلك الحين، باشرت واشنطن وحليفاتها الغربيات خطوات قطع التمويل عن «الأونروا»، بين الحين والآخر، بذرائع غالباً ما لم تكن مقنعة، ما أوحى أنّ القرار بإنهاء المنظمة متخذ، وأنّ البحث جارٍ عن التوقيت المناسب لإقراره.
ففي العام 2018، قرّرت إدارة ترامب وقف مساهمتها المالية البالغة 300 مليون دولار. وفي العام التالي، خفّضت مساهمتها الإضافية من 60 مليوناً إلى 25 مليوناً. وفي العام 2020، علّقت السويد والنرويج والدنمارك وسويسرا وبلجيكا وهولندا والاتحاد الأوروبي تمويلها «الأونروا» بعد تقرير لمفتش الأمم المتحدة يكشف وجود فساد وتحرّش جنسي وسوء إدارة فيها.
وهذه الذرائع أثارت حينذاك استياء القوى الفلسطينية، كما تستثيرها اليوم ذريعة المشاركة المحتملة في عملية «طوفان الأقصى». ففي أي حال، هذه الاتهامات تعني أشخاصاً معينين، فلماذا يتمّ تعميمها على الوكالة ككل؟ وهل يتمّ وقف تمويل الوكالات والمنظمات الدولية الأخرى وإقفالها عندما يتمّ اكتشاف تجاوزات مماثلة فيها؟
في الواقع، «الأونروا» تُعاقب لأنّ لوجودها مغزى مختلفاً، باعتبارها الشاهد الدولي الوحيد على ما يسمّى «القضية الفلسطينية». فهي أُنشئت بعد نكبة 1949 مباشرة، بموجب القرار الدولي 302، لتختصّ بالشعب الفلسطيني، ويتمّ تجديد ولايتها كل 3 سنوات، «حتى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية». وهذه الشهادة، بالتأكيد، يعمل الإسرائيليون على مَحوها.
وتُعنى «الأونروا» باللاجئين الذين كانوا يقيمون في فلسطين بين أول حزيران 1946 و15 أيار 1948، والذين خسروا منازلهم ومواردهم في الحرب، هم وأولادهم. وتريد إسرائيل ضمّ هؤلاء إلى سائر لاجئي العالم، وإلى إلغاء الوثيقة الدولية التي تعترف بهم كشعب يمتلك الحقّ في العودة.
وفي هذا السياق، سعت في العام 2018، إلى تسويق مفهوم جديد لصفة النازح، فحصرته فقط بمَن تشرَّد في العام 1948 شخصياً، بحيث لا يكون اللجوء صفةً قابلة للتوريث عبر الأجيال. وجرى حينذاك طرح مشروع في الكونغرس الأميركي يقضي بإعتماد هذا المعيار. وإذا نجح هذا المسعى، فستموت «الأونروا» تلقائياً بموت الجيل الذي خرج من فلسطين في العام 1948، أي منذ 76 عاماً، وهو جيل انقضى تماماً أو على وشك أن ينقضي.
وتُقدّم «الأونروا» اليوم مساعدات لنحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني، منهم قرابة مليونين وربع المليون في غزة، ونحو مليون في الضفة الغربية. وأما في لبنان، فيقيم نحو 450 ألف لاجئ فلسطيني، وفي سوريا قرابة 600 ألف. وسيتسبب قطع التمويل عن الوكالة بمآزق اجتماعية وإنسانية خطرة في المخيمات والبيئات الفلسطينية في هذه المناطق والدول.
وطبعاً، ستستفيد إسرائيل من هذه الخطوة لرفع مستوى الضغوط على الفلسطينيين والعرب، من أجل دفعهم إلى الرضوخ لمطالبها. وفي النهاية، سيُترك هؤلاء النازحون لمصائرهم في البلدان التي لجأوا إليها، من دون أي اعتراف بخصوصية قضيتهم وحقهم في العودة. وهذا يعني تلقائياً توطين هؤلاء في تلك البلدان، أو في بلدان ثالثة قد يهاجر بعضهم إليها.
في ما يعني لبنان، سيتضاعف حجم المعاناة التي يعيشها، بوجود ما يزيد عن 1.5 مليون سوري و450 ألف فلسطيني. لكن، المثير أنّ السلطة اللبنانية نفسها عمدت في العام 2017، وربما من دون أن تدري، إلى اتخاذ خطوة تسهّل على إسرائيل سعيها إلى التوطين.
ففيما كانت «الأونروا» تُحدّد عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين في قيودها في لبنان بنحو 570 ألفاً، أعلنت إدارة الإحصاء المركزي اللبناني، بالشراكة مع الإحصاء المركزي الفلسطيني، أنّ عدد اللاجئين الفلسطينيين «في المخيمات والتجمّعات» في لبنان بلغ 174.422 شخصاً.
وصحيح أنّ كثيراً من النازحين المسجّلين في «الأونروا» قد غادروا لبنان في فترات معينة، لكن التقديرات الحقيقية أشارت إلى أنّ عدد الباقين يناهز الـ450 ألفاً. وقد أحدث تقرير الإحصاء صدمة في العديد من الأوساط عند صدوره، خصوصاً أنّ هناك آلافاً إضافية من النازحين الفلسطينيين قد تدفقوا على لبنان من سوريا بعد اندلاع الحرب هناك.
وفي الواقع، وفيما كان لبنان يصرخ مستغيثاً من ثقل ملف النزوح السوري والفلسطيني، جاء الإحصاء ليبعث برسالة معاكسة: لا داعي للشكوى من النازحين الفلسطينيين في لبنان لأنّ عددهم قليل، و»ما بيحرز» للاعتراض. وفي عبارة أخرى، لا مشكلة إذا تمّ توطين هؤلاء في لبنان لأنّ عددهم لا يشكّل خطراً على تركيبته الحسّاسة طائفياً ومذهبياً.
وثمة مَن يخشى أن يتمّ تمرير هذا التوطين، ولبنان في وضعية العجز والانهيار، من خلال سيناريو معيّن قد يقضي بتقليص عدد النازحين الفلسطينيين الموجودين في لبنان بضعة آلاف، من أجل إقناع المعترضين في الداخل اللبناني، وفرض أمر واقع بتوطين الآخرين.
والواضح أنّ حرب غزة لن تتوقف قبل أن تترك تداعياتها الخطرة على مستقبل الشرق الأوسط ككل، وعلى مصير الفلسطينيين خصوصاً. وإلغاء «الأونروا» هو إحدى الحلقات التي يجري تدبيرها لتحقيق هذا الهدف.