وفي فورة من التنسيق المتزامن، أوقفت 19 جهة مانحة غربية رئيسية معوناتها للأونروا في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون في غزة في أمس الحاجة إلى المساعدات الإغاثية والإنسانية العاجلة. وذكّرت منظمة الصحة العالمية في بيان أصدرته وبشكل لا لَبْسَ فيه أن حجب الأموال سيكون له عواقب كارثية. كما حذّرت السيدة سيغريد كاغ، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، من أنه لا يوجد بديل للأونروا من أجل العمل على إنقاذ حياة السكان في غزة. صحيح أنه لا يوجد بديل للأونروا، ولكن الصحيح أيضاً أن الأونروا ليست بديلاً عن إنشاء الدولة الفلسطينية السيدة والحرّة والمستقلة.
على مدار 74 عاماً، ظلت الأونروا تقدم التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين الذين بلغ عددهم في البداية في العام 1948: 700.000 لاجئ، والآن يتجاوز عددهم 5.9 مليون. وعلى نحو خاطئ، بدا ان تقديم المساعدات للاجئين الفلسطينيين أسهل من إيجاد حل حقيقي ودائم للصراع مع إسرائيل. وحديثاً قامت الولايات المتحدة وألمانيا والسويد بتعليق دعمها المالي الذي يشكل 50% من موازنة الأونروا السنوية، فيما لا يزال التمويل العربي شحيحاً. ولقد بدا أن الجهات المانحة الغربية لمعالجة أزمة اللاجئين الفلسطينيين كانت تحركها المخاوف من التداعيات الإنسانية لهذه الكارثة، وكذلك الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، والتي هي في الأساس من صنع أيديهم.
وقف تقديم الدعم المالي للأونروا في الوقت الذي يعاني فيه الفلسطينيون من كارثة أكبر من كارثة عام 1948 أمر غير مبرر وغير مقبول. وقد وصفه البعض، بما في ذلك مقررْ الأمم المتحدة الخاص لشؤون الأونروا، فرانشيسكا ألبانيز، بأنه غير أخلاقي. والحقيقة أن المرء يتساءل عن توقيت هذا التصرف لجهة حجب الأموال عن الأونروا، ولا سيما في أعقاب إدانة إسرائيل من قبل محكمة العدل الدولية، وفي الوقت الذي كان العديد من المانحين الغربيين الذين حجبوا الأموال عنها، ينتقدون محكمة العدل الدولية علانية.
وتتعلق الأسباب التي تمّ التذرع بها من قبل تلك الدول لحجب المعونات عن الأونروا، أنَّ بعض موظفيها متهمين بالمشاركة في هجوم السابع من أكتوبر 2023 ضد إسرائيل، وحيث لم تنجح الإجراءات التأديبية المتخذة من قبل الأونروا والوعد بإجراء تحقيق كامل بشأن تلك الادّعاءات في ثني تلك الدول عن عزمها وقرارها بحجب المساعدات عنها. هذا إلى جانب الاتهامات النمطية وغير الصحيحة الأخرى الموجهة للأونروا وذلك من الترويج لمعاداة السامية، وهي التي ليست بجديدة.
على صعيد آخر، كانت هناك أصوات معارضة، ومن ذلك، فإنّه وفي جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي بشأن الأونروا، قد بادر عضو الكونغرس الديمقراطي جيسون كرو إلى إبداء مخاوف حقيقية من أن يؤدي وقف الدعم عن الأونروا إلى الإضرار بالأمن القومي الأميركي. هذا فضلاً عن أن وقف تمويل الأونروا ستكون له آثار إنسانية وخيمة ليس فقط على اللاجئين الفلسطينيين في غزة ولكن أيضاً على عدد من الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين، ولا سيما في الأردن وسوريا ولبنان. والأهم من ذلك، أن تدهور الظروف المعيشية والتدهور الاجتماعي لدى اللاجئين الفلسطينيين سيكون له آثار وخيمة على الأوضاع الأمنية في تلك البلدان المضيفة. ذلك فضلاً عن تصاعد المشاعر المعادية لأميركا والغرب عموماً. هذا ناهيك عن أن الحرمان من المساعدات والاستياء الذي سيعقبه سوف يشكلان وصفة سامة للمزيد من الاضطراب والتهور والتطرف في تلك البلدان وغيرها.
ليس من قبيل المصادفة أن منظمة حماس ازدهرت وازدادت شعبيتها في أفقر المجتمعات الفلسطينية ومن ذلك في غزة. ومن المحيّر أن نرى الغرب بتصرفاته غير الحكيمة هذه يتسبب في إلحاق الألم والبؤس بالفلسطينيين، تحت ذريعة مكافحة معاداة السامية، وذلك حيث يجري احتضان أجيال من الإسلاميين المتطرفين. إن إعطاء الأولوية في هذه الآونة لمعالجة مسألة معاداة السامية في مناهج مدارس الأونروا يعتبر عملاً ساذجاً، ولا سيما في الوقت الذي يواجه فيه الفلسطينيون أكبر نكبة في تاريخهم الحديث، وحيث أنَّ معظم المدارس إما أنها قد أصبحت مدمرة أو تأوي عشرات الآلاف من اللاجئين النازحين قسراً، وهم الذين يعانون من القتل المتعمّد والإبادة الجماعية، ومن الجوع والعطش والأمراض المعدية. ويتساءل المرء كم من الوقت والمال سيستغرق كل من طرفي الصراع لاستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية.
إنَّ حرمان الأونروا من تقديم الدعم والتمويل لها من قبل الجهات المانحة الدولية سيزيد من تعميق آلام العقاب الجماعي الذي يتعرّض له الفلسطينيون ويؤجج الكراهية والتطرف العنيف. ذلك لأنّ مقايضة الاعتبارات قصيرة المدى بأهداف طويلة المدى، لم تشكِّل إلاّ واحدة من الأساليب الخاطئة التي درجت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط على اعتمادها، وذلك على مسار طويل من هذه الممارسات الخاطئة. وهكذا يأتي قطع التمويل عن الأونروا ويا للأسف. قد يقول قائل أنّ الأونروا بحاجة لإعادة التأهل وإعادة النظر في رسالتها التعليمية للأجيال الفلسطينية. ولكن الجواب الآن أن ليس الوقت لبحث هذه المهمة الصعبة والشائكة، ولا سيما في معزل عن تحقيق تقدّم جديّ وملموس نحو اعتماد الحلول الصحيحة لإنهاء هذه القضية المستعصية.
إنَّ القضية المحقة لتأمين التمويل اللازم للأونروا، هو بمثابة تذكير صارخ بالفشل الفادح الناتج عن عدم حل القضية الفلسطينية. صحيح انّ الأونروا لا تزال مستمرة بسبب الرعاية الغربية. لكن هذه الرعاية ليست ولا يجب أن تشكل بديلاً عن بذل الجهد اللازم لإنهاء هذا الصراع الذي طال أمده. إن الأزمة الحالية تتعلق أكثر – وبشكلٍ أساس – بضرورة التوصل إلى حل عادل يلبي التطلعات والحقوق المشروعة للفلسطينيين، وليس بإدامة وضع ملايين اللاجئين منهم على هذه الحال المزرية. كما أن لامبالاة بعض الدول العربية والإسلامية يسهم أيضاً في إدامة البؤس لدى اللاجئين الفلسطينيين. ومن المثير للاهتمام أن إسهام بعض الدول العربية والإسلامية في دعم الأونروا لا يزال قليلاً على الرغم من أن بعضاً منها قد بادر إلى تكثيف جهوده في دعمها خلال الأشهر القليلة الماضية.
إن إيران وحلفائها من محور المقاومة الآخرين لا يقدمون عمليا أي مساعدات إنسانية، ولم يعرض أي منهم أي دعم لسدّ الفجوة في تمويل الأونروا. في هذا الصدد، يجدر التطرق للحديث عن الظروف المزرية التي تعيشها المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان، والتي ترتب أعباء إضافية وكبيرة على الأونروا باعتبارها المصدر والمزود الوحيد للاحتياجات التعليمية والصحية الأساسية لذلك العدد الكبير من اللاجئين الفلسطينيين في هذين البلدين. لقد حان الوقت لأن تبادر الدول العربية إلى الإسهام في زيادة معوناتها للأونروا.
في مطلق الأحوال، لا ينبغي أن تعتمد حياة اللاجئين الفلسطينيين على طيبة الغرباء فقط. إن قرار وقف تمويل الأونروا ليس له ما يبرره أخلاقياً أو معنوياً أو سياسياً. ويبدو أنَّ أصداء هذه المشاعر قد بدأت تتردد على نطاق واسع عبر المحيط الأطلسي، بدءا من الأصوات المعارضة في الكونغرس الأميركي وحتى لدى أعلى المستويات في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ المأساة الإنسانية التي تتكشف تفاصيلها في غزة، ومن ذلك ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية – لا بدّ وأن تكون بمثابة حافز لبدء عملية سياسية تؤدي إلى إعطاء الفلسطينيين الحقوق التي طال انتظارها. كذلك، فإنّ المذبحة الأخيرة التي وقعت في مدينة غزة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من مئة ضحية وقرابة تسعمائة جريح من المدنيين الأبرياء الذين يتضورون جوعاً وعطشاً، والذين هم بالفعل ضحايا مباشرين نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.
هذا فضلاً عن التدمير المنهجي للأونروا وبهدف تفكيكها. ولذلك، فإنّه ينبغي لهذه الأحداث المأساوية أن تدفع البلدان التي أوقفت الأموال والمساعدات عن الأونروا، وان نددت بالمذبحة الأخيرة، فإنه ينبغي عليها التراجع فوراً عن قرارها المؤسف بقطع المساعدات عن الأونروا، وذلك من أجل تمكينها من الاستمرار في مساعدة الفلسطينيين.
إنَّ الفلسطينيين في غزة وبلاد الشام بحاجة بحق إلى كل الدعم الإغاثي والإنساني الذي يمكِّنهم الحصول عليه من الأونروا.
مقال نشر في جريدة «ناشيونال» الصادرة بالانكليزية في ابو ظبي