يحار المرء في أمر الأوضاع في لبنان وفي قراءة مواقف الأطراف التي تصادر عملياً النشاط السياسي، بل يتساءل عن علّة وجود هذه الأطراف في الأصل. أين المشروع السياسي الوطني لكل طرف منها؟ أين نظرته إلى الوطن؟ لنسلّم جدلاً أنّ أحد هذه الأطراف وصل إلى السلطة، لنقل أوصلته الديموقراطية اللبنانية إلى السلطة، إلى أين يأخذ البلاد؟ إلى أحضان من؟!
يُخيَّل إليّ أنّ جميع الأطراف «اشتغلت» لجميع الجهات، الإقليمة والدولية التي تهتم بلبنان، ليس حبّاً بلبنان واللبنانيين، ولكن من المعروف أنّ أكثر هذه الجهات تكره سورية والسوريّين؟
قال صديقي: أنتم اللبنانيون تتنازعون في كل مرة يُريد فريق منكم إدخال حليف له من خارج لبنان والاستقواء به على الأطراف الأخرى.
ـ في سنة 1958: اشتعلت «الثورة»! استُخدمت كلمة «الثورة» في توصيف «المدّ الناصري» الذي تقدّم تضامناً مع سورية، التي كانت تركيا والعراق تتحضّران لمهاجمتها. يومذاك انخرط نصف اللبنانيين في التيار الناصري، في حين أنّ النصف الآخر خافه.
يحسن التذكير أنّه كان من بين المُعترضين «سنّة آل سعود» الذين كان يتزعّمهم، بحسب علمي السيد صائب سلام !.. انتهت «الثورة» بأن «لا غالب ولا مغلوب»، كما هو معروف.
ـ في سنة 1968: جاء الفلسطينيّون في «ثورة» أيضاً… «حتى النصر». استقبل هذه الثورة نصف اللبنانيين، واعترض على دخولها نصف اللبنانيين الآخر. اعترضت أحزاب لبنانية محليّة، كمثل حزب الكتائب الذي قدح شرارة الحرب في نيسان 1975، ضدّ الفلسطينيين . استمرت هذه الحرب حتى سنة 1982.
ـ في سنة 1976: دَخَلت القوات السوريّة إلى لبنان، لمنع الحركة الوطنية من الذهاب إلى آخر محاولتها في تغيير النظام، بحسب برنامج إصلاح وطني، كانت قد أعدّته، يومذاك قال السوريون: «الوقت ليس ملائماً»، وفرضوا معادلة معقدة جداً. أعتقد أنّهم كانوا ضدّ جميع الفرقاء، وقمعوا الجميع، وكانوا مع الجميع في آنٍ واحد!
ـ مع الدخول السوري إلى لبنان، دخل السعوديون، أو بالأحرى دخل السعوديون إلى لبنان على ظهر الدبابات السورية. طبعاً دفعوا أجرة النقليات للسوريين. الذين ظلّوا ينقلون السعوديين، وينقلون حقائب الدولارات، حتى سنة 1982 تاريخ الغزو الإسرائيلي.
ـ سنة 1982: دخول الإسرائليين. لم يتغيّر شيء. نصف اللبنانيين كانوا معهم، والنصف الآخر ضدّهم! تباحثت الحكومة اللبنانية مع الغزاة الإسرائيليين، وتوصّلت معهم إلى صيغة اتفاقية تطبيع، ولكنها أُلغيت. جرت في الواقع أمور كثيرة أثناء الاحتلال، لا يتّسع المجال هنا لتناولها.
ـ في 1984: دخول إيران، على شكل تهيئة الأرضية، لمقاومة الإسرائيليين الذين احتلّوا جزءاً من الأراضي اللبنانية. تمثّل ذلك بسنوات الرعب، وتصفية رموز الحركة الوطنية. في المقابل انطلقت المقاومة، مقاومة حزب الله ضدّ الاحتلال، التي دعمها الإيرانيون، وجعلوا منها قوة عسكرية يُحسب لها حساب، واحتياطي قوة في حال نشوب مواجهة مع الأميركيين والسعوديين والأتراك والإسرائليين. هذه المواجهة تجري حالياً في سورية. لم يتغيّر شيء على الصعيد اللبناني الصرف .. نصف اللبنانيين هم مع المقاومة والنصف الآخر ضدّها!
ما يُدهش إلى حدّ الذهول، أنّ بعض الذين كانوا في الماضي، ناصريين وقوميين وشيوعيين، صاروا «سعوديين»، وأنّ بعض الذين صفّقوا لسوريا في الماضي، وتملّقوا لضباط مخابراتها في لبنان، صاروا «سعوديين» أيضاً . ولكن العجب العجاب، أنّ بعض الذين استقبلوا الغزاة الإسرائيليين سنة 1982، يوقّعون في هذه الأيام، مع «سنّة السعودية» على لائحة الوفاء للـ«عروبة» وللسعودية، ما يدلّ إمّا على أنّ هذه اللائحة مزيّفة، وإمّا على أنّ الموقّعين متعدّدو الأوجه والألسن والألوان!