كان جون كيري يقف إلى جانب سيرغي لافروف٬ وكان واضًحا أن الاجتماع الذي انتهى عصر الثلاثاء في فيينا٬ لم يحقق أي تفاهم بين واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية٬ التي يبدو أنها ستدخل مرحلة جحيمية جديدة من القتل والتدمير.
لم تكن الصورة السوداء في حاجة إلى دلائل٬ وجوه المندوبين الأوروبيين الذين حضروا اجتماع فيينا كانت تفيض بالقنوط٬ إلى درجة أن وزير الخارجية الألمانية فرانك فالتر شتانماير٬ لم يلمس أي دليل على أن المباحثات أسفرت عن نتيجة من شأنها أن تعزز وقف إطلاق النار الهش في سوريا وخصوًصا في حلب٬ ولهذا اكتفى بقول كلمات قليلة لكنها تفيض بالمرارة: «إن النقاشات الدبلوماسية كانت مثيرة للجدل»!
لكنها نقاشات كانُيفترض أن تعالج المشكلات الميدانية الخطيرة التي شهدتها سوريا بعد اتفاق الهدنة في 27 فبراير (شباط) الماضي٬ التي لم يحترمها النظام وحلفاؤه كما استغلّها الروس لتوفير مظلة جوية قوية دعمت هجوًما كبيًرا ومنسًقا على حلب٬ شارك فيه الجيش السوري مع إيران العسكرية.
أمام هذا٬ وفي ظل ما أسفرت عنه هذه «النقاشات الدبلوماسية المثيرة للجدل»٬ كان من المستغرب فعلاً أن لا يتردد جون كيري في محاولة ترويج الأوهام تكراًرا٬ إلى درجة أن الدبلوماسيين الواقفين إلى جانبه أصيبوا بالدهشة عندما قال حرفًيا وفي إشارة إلى بشار الأسد: «لقد انتهك القرار الدولي الخاص بسوريا٬ ولا يمكن له أن يهاجم حلب ويبرم صفقات مع (داعش)٬ ولدينا خيارات كثيرة للتعامل مع الأسد إذا لم يلتزم الحل السياسي»!
كان هذا الكلام مستغرًبا بالنسبة إلى الذين سمعوه٬ وخصوًصا أن سيرغي لافروف كان قد نجح خلال هذه «المناقشات الدبلوماسية المثيرة للجدل»٬ في أن يدفع كيري نحو نوع جديد من الرمال المتحركة٬ وقبل الحديث عن هذه الرمال٬ من الضروري أن نتذكر أنه قبل ستة أشهر٬ وتحديًدا في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي٬ أطلق مسار جنيف حول الأزمة السورية على أساس القرار الدولي رقم 2254 الذي نّص صراحة على ضرورة حصول عملية الانتقال السياسي في سوريا.
ويومها لّوح كيري بأنه إذا لم يتم السير حسب هذا القرار٬ فإن لدى أميركا «الخطة ب»٬ بما يعني أو على الأقل يوحي ضمًنا٬ بأنها تملك رًدا مناسًبا على عدم التزام النظام السوري وحلفائه القرار الدولي المشار إليه٬ ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم ثبت أنه ليس لدى الإدارة الأميركية لا «خطة ب» ولا أي موقف واضح حيال التفّرد الروسي الإيراني المستفحل في سوريا٬ فما معنى عودة كيري إلى الحديث عن «الخيارات الكثيرة التي تملكها واشنطن للتعامل مع الأسد٬ إذا لم يلتزم الحل السياسي»؟!
كان واضًحا تماًما أمام وزراء الدول الـ17 التي حضرت نقاشات فيينا٬ أن لافروف يتمادى في اللعب على الوقت الأميركي الضائع٬ أولاً بسبب سياسة التردد التي اعتمدتها الإدارة الأميركية منذ تراجعها عن تنفيذ تهديدها رًدا على استعمال السلاح الكيميائي في الغوطتين عام ٬2013 وثانًيا لأن الوضع الراهن يصادف مرحلة السبات الانتخابي في أميركا٬ ولهذا لم يكن مستغرًبا أن يسّجل كيري على نفسه تراجًعا نافًرا عندما قال بعد الاجتماع وبالحرف: «إن موعد الأول من أغسطس آب) الذي تم تحديده أساًسا للأطراف المتحاربة في سوريا٬ والذي يهدف إلى الاتفاق على إطار عمل حول مسألة الانتقال السياسي٬ هو هدف وليس موعًدا»!
هدف وليس موعًدا؟
إذن هل من الكثير عندما تسارع المعارضة السورية٬ إلى نعي عملية إيجاد تسوية سلمية للأزمة الدامية التي دمرت سويا٬ وأودت بأكثر من 300 ألف قتيل٬ وأغرقت المنطقة وأوروبا بملايين اللاجئين٬ باعتبار أن الموعد يكون عادة محدًدا أما الهدف فليس من المضمون أنه يمكن الوصول إليه٬ وليس سًرا أن روسيا تحاول إفراغ «جنيف 1 «الذي نّص على قيام هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات٬ واستبدال بها تشكيل حكومة وحدة وطنيةُتعطي حقائب هامشية إلى معارضة الداخل٬ بما يعني بقاء الأسد في السلطة٬ ودائًما على قاعدة فلاديمير بوتين أن «كل من يعادي الأسد إرهابي»!
لا بد من أن يكون لافروف قد لاحظ الوجوم على وجوه زملائه الأوروبيين الذين حضروا اجتماع فيينا٬ وخصوًصا أن التقارير تتحدث عن إحباط واستياء متزايدين في أوساط مجموعة أصدقاء سوريا المكونة من 17 دولة٬ ولهذا تعّمد التخفيف من دور روسيا في إفشال لقاء فيينا والعملية السلمية عندما قال: «إن موسكو لا تدعم الرئيس بشار الأسد٬ بل تدعم الجيش السوري في مواجهة (داعش).. نحن لا ندعم الأسد بل ندعم القتال ضد الإرهاب٬ وعلى الأرض لا نرى أي قوة حقيقية أكثر فعالية من الجيش السوري»٬ لكن كل هذا الكلام لم ينِس سامعيه قول بوتين سابًقا٬ إنه تدخل لأن الجيش السوري كان منهاًرا٬ ولا ينسيهم أيًضا أن القصف الروسي لم يستهدف «داعش» بل المعارضة.
وفي عودة إلى الرمال المتحركة التي دفع لافروف كيري للوقوع فيها٬ قوله إن على أميركا وأصدقاء المعارضة السورية٬ العمل جدًيا للتنصل من تنظيمي داعش» و«جبهة النصرة» جغرافًيا وآيديولوجًيا٬ وهو ما دفع أوساط المعارضة إلى الرد بالقول أولاً إن المعارضة هي التي تقاتل «داعش» بينما الأسد يتعاون معه٬ وثانًيا إذا لم يكن في وسع اجتماع فيينا ضمان وقف النار٬ مما استدعى إلقاء المساعدات جًوا٬ كما يقول كيري٬ فهل من الممكن أن يقتنع الروس بأنه لا علاقة جغرافًيا وآيديولوجًيا بين الفصائل المعارضة و«داعش» و«النصرة»٬ ثم على من يعتمد الطيران الروسي في قصفه؛ أوليس على إحداثيات النظام الذي يختار مواقع المعارضة؟
لم يفشل لقاء فيينا٬ الذي فشل عملًيا هو الحل السلمي وسوريا من جحيم إلى جحيم٬ وكيري من وهم إلى أوهام٬ ولا معنى قط للحديث عن «خيارات أميركية كثيرة للتعامل مع الأسد إن لم يلتزم الحل السياسي»٬ فهو لم ولن يلتزم والروس والإيرانيون يمنعونه من أن يلتزم٬ وها هو السفير الأميركي السابق جيمس جيفري يقول:
«في الواقع ليست هناك (خطة ب) لسوريا٬ والأسوأ أننا نتفرج على الروس والإيرانيين يحققون انتصاراتهم باسم سوريا»!
كذلك ها هو الدبلوماسي فيليب غوردن الذي ترك مهامه في البيت الأبيض مستشاًرا للشرق الأوسط يقول حرفًيا: «إن مقارباتنا منذ أعوام غير مجدية٬ ولن تكون مجدية على الأرجح»٬ وها هو أحد الدبلوماسيين الذين شاركوا في لقاء فيينا يقول لوكالة «رويترز»: «لا يملك الضامنان الروسي والأميركي ما يقنع المعارضة السورية بأن التفاوض يستحق العناء٬ ومن المحزن أن يحاول كيري إظهار تفاؤل لا يمكن تنفيذه»!