Site icon IMLebanon

أسباب غير ملحوظة في استقالة الحريري!

 

في مطلع هذا الشهر قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارته الثالثة لطهران، حيث التقى المرشد الأعلى علي خامنئي ورئيس الجمهورية حسن روحاني. وتركزت محادثات الجانبين على مراجعة أدوارهما العسكرية والاقتصادية في سورية، بعد الإعلان عن دعمهما الكامل للرئيس بشار الأسد. واتفقا على قبول أي تغيير في نظام الحكم، شرط أن يخضع لانتخابات عامة يعبر من خلالها الشعب السوري عن إرادته.

والثابت أن المحادثات الروسية- الإيرانية لم تتطرق إلى ضرورة استرداد سبعة ملايين لاجئ، خصوصاً أن ميليشيات طهران كانت قد نجحت في تحرير مدينة البوكمال السورية من سيطرة «داعش». وهو حلم كانت إيران تسعى إلى تحقيقه بحيث بات الطريق مفتوحاً أمام قواتها وذلك عبر محور بغداد والفلوجة والرمادي والقائم والبوكمال ودير الزور وتدمر ودمشق… ثم بيروت!

وقد رأى المرشد الإيراني خامنئي في هذا الإنجاز الحربي استكمالاً لخطة ربط طهران بلبنان عبر العراق وسورية. كل هذا بغرض تأمين طريق الاتصال بين طهران و «حزب الله».

وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها بوتين لإيران، تمت موافقة خامنئي وروحاني على إبقاء القواعد العسكرية الروسية في سورية، حتى بعد الانتصار على «داعش».

وكانت القوات الروسية قد باشرت عملياتها العسكرية في سورية يوم 30 أيلول (سبتمبر) 2015. وذلك في إطار دعمها الحكومة السورية في مجال محاربة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها «داعش» و «جبهة النصرة». وبسبب حاجة القوات الروسية إلى زيادة عدد جنودها، فقد اضطرت إلى إنشاء قاعدتين عسكريتين في طرطوس وحميميم.

بعد ظهور هذه التطورات الدرامية التي انتهت بتحقيق ما سمي بـ «الهلال الشيعي»، وسقوط دولة «الخلافة» في العراق وسورية، وبعث «حزب البعث» لدى نظام الأسد، وظهور «حزب الله» كلاعب إقليمي… كل هذه المتغيرات انعكست على الساحة اللبنانية، وعلى آلية التسوية التي أنقذت فراغ الحكم، وجاءت بتسوية جمعت ميشال عون وسعد الحريري تحت شعار «استعادة الثقة».

أول تصدّع سياسي شهده لبنان أخيراً كان بمثابة نتيجة طبيعية لتسارع المتغيرات التي حدثت في المنطقة. وهي تطورات بالغة الأهمية فرضت على رئيس الحكومة سعد الحريري إعادة النظر في مضمون البيان الوزاري الذي حمل في نصوصه العبارة التالية: «إن الحكومة تلتزم بما جاء في خطاب القسم لفخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من أن لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النار المشتعلة حوله في المنطقة بفضل وحدة موقف الشعب اللبناني وتمسكه بسلمه الأهلي. من هنا ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية، مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي حفاظاً على الوطن ساحة سلام واستقرار».

ولقد اختصر سعد الحريري هذه الديباجة، خلال حديثه مع بولا يعقوبيان، بسياسة النأي بالنفس. وقال لها إن هذه الصيغة هي من تنظير رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي.

وحقيقة الأمر أن ميقاتي اجترح هذه القاعدة السياسية أثناء رعايته لاجتماع متخرجي معهد «إنسياد» لإدارة الأعمال في فندق «فينيسيا». وقال في حينه: «منذ تسلمت مسؤولية رئاسة الحكومة وأنا أعمل كي أنأى بلبنان عما يجري حوله من أحداث وتطورات. وقد زادتني هذه الأحداث قناعة بصوابية سياسة النأي بالنفس التي التزمتها مع حكومتي. وهي تُختَصَر بضرورة تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية التي تشغل المنطقة.

ولكن، هل هذا بالأمر المستطاع في بلد يشكل المدخل الوسيع لمنطقة تضج بالاضطرابات؟ وهي اضطرابات متواصلة منذ أحداث 1860، ظلت تتكرر خلال فترات زمنية على شكل ثورات أهلية، إلى أن هدأت مطلع التسعينات.

واليوم تحذرنا الدول الكبرى من خطر افتعال أزمات في المنطقة قد تنعكس سلبياتها على أمن لبنان واقتصاده. خصوصاً بعدما تلقى أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقريراً يشير إلى أن إيران تبني قاعدة متقدمة في سورية، ومصنعاً في لبنان لإنتاج صواريخ موجهة. ويذكر التقرير أن إيران تعمل على بناء قاعدة عسكرية برية لا تبعد عن حدود إسرائيل أكثر من خمسين كيلومتراً. وقد بثت شبكة الأخبار البريطانية (بي بي سي) صوراً التقطها القمر الاصطناعي تظهر قاعدة عسكرية إيرانية ثابتة بالقرب من دمشق. وتؤكد مصادر أوروبية أن إيران تعمل على تطوير الصاروخ الباليستي الذي يستخدمه الحوثيون في حربهم ضد المملكة العربية السعودية.

وبين أهم الأسباب التي أدت إلى استقالة سعد الحريري كان استعجال بعض أعضاء الحكومة للتنسيق مع النظام السوري قبل أن يعلن استقالته من التبعية لإيران وروسيا. وأكبر مثل على ذلك أن الدولتين تقومان بالتفاوض على حل النزاع نيابة عن الحكومة السورية. ومعلوم أن مثلث «الحرس الثوري» الإيراني والقوات الروسية و «حزب الله» يمثل ركيزة الحكم في جمهورية بشار الأسد.

لهذه الأسباب وسواها اعتبر الحريري أن الحكومة اللبنانية تعطي مجاناً شرعية لنظام يرفض عودة مليون ونصف المليون لاجئ إلى أماكن آمنة في سورية، وفق ما نقل على لسان مسؤول لبناني. علماً أن قرار عودتهم سيصدر من طهران وموسكو وليس من دمشق. من هنا عتب زعماء الأحزاب الوطنية على «حزب الله»، كونه تغاضى عن البحث في هذه المشكلة الشائكة، وترك لوكيله الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، مسؤولية استنفار المنظمات الدولية لعلها تساعد لبنان على استرداد توازنه الطائفي والاجتماعي.

بقي السؤال المتعلق بالمستقبل السياسي لسعد الحريري، وما إذا كان رجوعه إلى لبنان سيحل المشكلة التي طرحها من الرياض.

يقول المحللون في بيروت إن الحريري أصبح أسير شروطه، خصوصاً بعدما قرر ألا يكون غطاء لـ «حزب الله»، أو شريكاً مع ممثل «حزب الله»، أي ميشال عون. وبسبب إعلان مصارحته لكيفية تقويم الاعوجاج، فإن عون لا يجرؤ على قبول شراكته من جديد. ومن المتوقع أن ينضم سعد الحريري إلى المعارضة على أن يتهيأ لخوض الانتخابات النيابية المقبلة بمجموعة مرشحين عن كل المناطق. وهو يعتمد في المعركة المقبلة على الرصيد الذي تركه له والده… وعلى رصيد موقفه من مقاومة الانحراف… وعلى الدول الخارجية التي اعتبرته ضحية النزاع الإقليمي.

ولكن هذا التغيير لا يمنع إيجاد رئيس حكومة سني من الدرجة الثالثة يكون مستعداً لترؤس حكومة تكنوقراط تتولى عملية تصريف الأعمال. ويرى الاقتصاديون أن هذا الحل السياسي قد يؤثر في الوضع المالي، خصوصاً أن الدين العام يتجاوز عتبة السبعين بليون دولار.

وحول هذا الموضوع، أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن الأزمة التي يشهدها لبنان هي أزمة سياسية لا نقدية. وقد طمأن المتسائلين خلال المؤتمر الذي دعت إليه صحيفة «فاينانشال تايمز» اللندنية، وشارك فيه عدد من المصرفيين بينهم: جوزيف طربيه (رئيس جمعية المصارف) وسعد الأزهري (بنك لبنان والمهجر) وفريدي باز (بنك عودة).

قال سلامة: إن سياسة مصرف لبنان النقدية ترتكز على مؤشرات مالية واقتصادية، كما تستند إلى واقع لبنان حيث الأخطار السياسية والأمنية هي بأهمية المؤشرات المذكورة. وأكد في كلمته أن موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية قد تجاوزت 43 بليون دولار. وهذا ما يجعل البنك المركزي في وضع المسيطر على أسواق الصرف.

ويُستدَل من هذا التوضيح المطمئن أن الارتجاج السياسي، الذي حدث بسبب استقالة سعد الحريري، لن يكون له الوقع الاقتصادي الخطر كما يتوقع البعض، وكل ما فعله في هذا السياق هو أنه وسّع هوة الخلاف وزاد من قسمة أهل البلاد، ووضع «حزب الله» أمام أزمة وجود كان دائماً يتحاشى السقوط في منزلقاتها.