كما 17 تشرين الأول 2019 كذلك كان 8 آذار 2021. قال الشارع كلمته مرة جديدة. لم ينتظر طويلاً فتجدّدت الإنتفاضة في تاريخ له رمزيته.
مؤشرات كثيرة مثيرة للقلق تزامنت وتجمعت ودفعت الناس للعودة إلى الشارع والفارق عن 17 تشرين أن الوجع صار أكبر والإنهيار أكبر والإنكار أكبر. كأنه الفارق بين الغياب عن الوعي في قصر بعبدا وعن الصحوة المتجددة في قيادة الجيش بعد إعلان العماد جوزف عون التلازم بين مساري الشعب والجيش. هذا التلازم لم يولد من فراغ بل من سلسلة تطورات:
• مع قرار تخفيف إجراءات الحجر كان هناك قرار بأن يكون يوم الإثنين يوم غضب ودعوات إلى الإقفال العام وقطع الطرق. وكان هناك تساؤل عن الجهة التي ستكون لها الغلبة وعما إذا كانت حركة الإحتجاج ستنجح وقد أثبتت أنها نجحت وصمدت.
• منذ أسبوع تكررت عمليات قطع الطرق كل يوم. ومن الملاحظ عدم تدخل الجيش اللبناني لفتح الطرق بالقوة. هذا الأمر أثار أكثر من علامة استفهام لدى “حزب الله” والعهد، على رغم أن لا قدرة للجيش على التحرك في كل المناطق التي يتم فيها إقفال الطرق بسبب تكاثر عدد النقاط التي يتم إقفالها، وعدم اقتصار الأمر على نقاط قليلة محددة يمكن التعامل معها بحزم. يضاف إلى هذا الأمر أخذ الجيش بالإعتبار تراكم الأزمة على مدى الأشهر الممتدة منذ 17 تشرين في ظل عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن الإتيان بأي حل. وهذا ما عبر عنه القائد عندما ساوى بين الجيش والشعب في المعاناة المعيشية وفي تحميل المسؤولية للطبقة السياسية الحاكمة.
• منذ أسبوع أيضاً تكررت التحركات في مناطق تعتبر من ضمن بيئة “حزب الله” وهي تحركات لها وجهان: هناك تحركات موجهة انطلقت بعد مهرجان بكركي يوم 27 شباط بحيث سجلت عمليات انتشار عشوائية في محيط كنيسة مار مخايل الشياح، التي شهدت توقيع التفاهم بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” بالإضافة إلى قطع جسر الرينغ من جهة الخندق الغميق، بعدما كانت وحدات من تلك المنطقة تهاجم من يقطعون الطريق هناك بعد 17 تشرين وتهاجم الخيام المنصوبة في ساحة الشهداء والمعتصمين، وتعتدي عليهم من دون أن تلقى أي مقاومة أمنية تذكر. طبيعة هذه التحركات تكررت أكثر من مرة وصولاً إلى تسيير مسيرات على الدراجات النارية مع إطلاق هتافات مذهبية وإعادة التذكير بتكرار 7 أيار من خلال استعادة فيديوات قديمة. وهذه العملية استكملت بتهديدات لم يعرف هدفها بالتوجه إلى بعبدا على رغم التحالف المستمر بين “حزب الله” والعهد و”التيار الوطني الحر”. البعض اعتبر أن هذه العملية كانت محاولة لمعرفة رد فعل الجيش اللبناني الذي سارع إلى إقفال المداخل المؤدية إلى عين الرمانة، ونفذ عملية انتشار في المناطق المؤدية إلى قصر بعبدا. أما الوجه الآخر للتحركات الشعبية في المناطق التي يعتبرها “حزب الله” تابعة له فكانت من ضمن صرخات الوجع الشعبية، التي لم يتسنّ لها أن تتسع لتتحول إلى ما يمكن أن يخيف “الحزب”، وهي عادت إلى الظهور في بعلبك والنبطية وصور والمشرفية وطريق المطار.
• ثمة احتقان ظاهر على الأرض يمكن أن يؤدي إلى انهيارات أمنية. ما حصل في خلدة وفي الجية كان مؤشراً إلى أن أي حادث مماثل قد يتحول إلى مشكلة أمنية كبيرة لا يرغب “حزب الله” في تحمل عواقبها. فبعد ثورة 17 تشرين كان “الحزب” قد هدد فعلاً باستخدام القوة لفتح الطريق بين بيروت والجنوب، خصوصاً في مناطق خلده والناعمة وبرجا وهذا ما دفع الجيش إلى منع إقفال هذه الطرق بالقوة. ولكن اليوم عادت هذه الطرق لتقفل. صحيح أنه لا توجد تجمعات شعبية كبيرة تقفلها ولكن “الحزب” يحاذر الدخول في عملية أمنية وهو لا يزال يترك للجيش تولي عملية فتحها ولكنه قد لا يستطيع السكوت طويلاً. ربما تردده ناجم عن عدم قدرته على استخدام القوة، لأن الدخول في مواجهة من هذا النوع قد يفتح عليه مواجهات كثيرة، مع أخذه بالإعتبار أنه من الممكن أن يكون قطع هذه الطرق محاولة لاستدراجه إلى رد فعل مماثل لا يريده.
• هذا الإستشعار بمثل هذه المخاطر الأمنية قد يكون وراء قرار قيادة الجيش تجميد مفعول رخص حمل السلاح في كل لبنان. ولكن هل هذا القرار يمكن أن يمنع ظهور السلاح وحصول الإشتباكات التي تتكرر لأكثر من سبب في أكثر من منطقة من دون أي خوف من “الدولة”؟
التغيير المطلوب من أجل الإنقاذ
• في ظل هذا التردي الأمني والمعيشي يبدو أن السلطة الحاكمة تعيش في عالم آخر وتتعاطى مع الأزمة وكأن لا أزمة موجودة تستدعي التنازل عن الحصص، والذهاب نحو حكومة جديدة تكون حكومة إنقاذ حقيقية، وأكثر من ذلك فهم يتصرفون وكأن مسألة تشكيل الحكومة أي حكومة باتت خارج اهتماماتهم، وهذا ما يؤدي حكماً إلى مزيد من الإنهيار وإلى ضياع القرار وإلى تفاقم التحركات في الشوارع. وما ظهر من الإجتماع التقريري الذي عقد أمس في بعبدا وما صدر عن رئيس الجمهورية، يظهر كم أن هذه السلطة فاقدة للقرار وناكرة للأزمة وكأنها تنتمي إلى وطن آخر.
• مع إنسداد الأفق السياسي وتوسع الإعتراض في الشارع كان من اللافت انفتاح “حزب الله” على الحوار مع البطريرك بشارة الراعي. هذا الإنفتاح اعتبره مراقبون بأنه نقطة تراجع في عملية تصدي “حزب الله” لما يتعرض له من انتقاد لدوره وسلاحه. بعد ثورة 17 تشرين لم يكن موضوع سلاحه مطروحاً. بعد 27 شباط بات هذا السلاح على الطاولة مع تحميله مسؤولية العمل على تغيير صورة لبنان واسباب الإنهيار الحاصل. وإذا كان “الحزب” قاطع الراعي بعد زيارته الأراضي المقدسة عندما لم يكن قد انتقد دوره في لبنان وحكى عن خطره على الكيان، فكيف يقبل اليوم بالحديث معه بعدما رفع البطريرك السقف عالياً؟
• أمس كان 8 آذار. قبل 16 عاماً كان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في ساحة رياض الصلح ينادي بالشكر لسوريا، محاولاً منع استكمال عملية سحب النظام السوري جيشه من لبنان، بعدما كان رأس النظام بشار الأسد قد أعلن في 5 آذار قراره بالإنسحاب. في 8 آذار 2021 لا يستطيع “حزب الله” أن يدافع عن عدم قدرته مع العهد عن المضي قدماً في الطريق إلى جهنم. قبل 16 عاماً أدى يوم 8 آذار إلى يوم 14 آذار. اليوم بعد 16 عاماً قد يتكرر المشهد. مشهد استعادة انتفاضة الشعب الرافض للهيمنة ولتغيير هوية الوطن اللبناني.
• لا يجب أن تتكرر تجربة 17 تشرين. الإنتفاضة الجديدة يجب أن تؤمّن مخرجاً من الأزمة. ارتقت الحركة في الشارع من المدى المعيشي إلى المدى الأمني والسياسي والسلطوي الذي لم يطرح بقوة من قبل. إنها مناسبة لإحداث التغيير في ظل عجز السلطة من أجل أن يعيد الشارع فرض عملية التغيير المطلوب من أجل الإنقاذ، بعدما باتت مطالب هذا الشارع بالحرية والسيادة والكرامة مطلب العالم كله.