توافرت في الساعات الأخيرة معطيات تؤكّد أنّ الاستياء السعودي من لبنان آخذ في التصعيد. فالقرار الذي اتخذته دول مجلس التعاون الخليجي، والذي يعتبر «حزب الله» منظمة إرهابية، ناجم عن ضغط سعودي على هذه الدول في اتجاه تزخيم المواجهة مع طهران.
المعلومات المتوافرة تؤكّد أن لا مجال للمراهنة على إعادة نظر سعودية في التدابير العقابية المتخذة ضد لبنان، ما لم تُظهِر الحكومة تضامناً تامّاً مع مواقفها ضد إيران. ولذلك، ستمضي السعودية على رأس المنظومة الخليجية في سلسلة خطوات متلاحقة.
فالسعوديون ليسوا في وارد مَنح لبنان أسباباً تخفيفية لتبرير عدم اتخاذه موقفاً متضامناً معهم في مواجهة إيران، كما كانوا يفعلون في العهد السعودي السابق. وهم أرسلوا إلى القوى اللبنانية الحليفة يقولون لها: تحرّكوا، وانتفِضوا ضد نَهج «حزب الله»، ولا تستمروا في التخاذل وإبقاء القرار اللبناني في يده كما هي الحال حتى اليوم.
وفي تقدير السعوديين أنّ هذه الانتفاضة ضد «الحزب» ممكنة، وإن يكن «الحزب» مالكاً للسلاح. ففي يد 14 آذار ورقة النزول إلى الشارع كما في الاستحقاقات الكبرى، وأبرزها يوم 14 آذار 2005، وانتزاع القرار من يد «الحزب» بَدل السكوت والاستسلام.
ففي العهد السعودي السابق، كان الاتجاه هو التنازل لإيران في لبنان وسائر دول المنطقة. وهذا ما أدى إلى تكريس سيطرتها. وقد تهاوَنت السعودية والقوى الحليفة لها في لبنان مع «حزب الله»، وأبرمَت التسويات معه، وسكتت على انخراطه بالحرب في سوريا والعراق واليمن وتنظيم نشاطاته في دول الخليج.
لكنّ إيران قرّرت التمادي في ممارسة الضغوط، حتى داخل المنظومة الخليجية. وأدّى «الحزب» دوراً مهماً في اليمن، الخاصرة السعودية، فيما كان اللبنانيون المناصرون لـ«الحزب» يقيمون في دول الخليج ويمارسون أعمالهم كالمعتاد.
ولذلك، يقول مصدر سعودي مُطّلع على موقف الرياض، إنّ عهد الملك سلمان بن عبد العزيز ليس في وارد الاستمرار في هذا النهج، وهو قرّر اعتماد أسلوب المواجهة الذي سيحول دون استكمال الهَيمنة الإيرانية في شكل تام.
وثمّة مَن يسأل المصدر: ولكن، ألا يخشى العهد السعودي الجديد أن تتسَبّب المواجهة التي يدعو إليها في بلد حسّاس، والنزول إلى الشارع، إلى وقوع فتنة مذهبية في لبنان لا يستطيع أحد التكهّن بنتائجها؟
فيجيب المصدر: لا. لأنّ «حزب الله» أيضاً يَخشى المواجهة المذهبية، وهو لطالما استغلّ خوف خصومه من الفتنة ليُطالب بالمزيد. وليس بالضرورة أن يؤدي الضغط في الشارع إلى الفتنة. أليس الحراك المدني أحد مظاهر الشارع، وهو لم يتسَبّب بأيّ أزمة تهزّ الاستقرار؟
وثمّة من يقول لهذا المصدر: لكنّ الحراك المدني لا يتّخذ منحى الاحتجاج المذهبي أو الطائفي، وأمّا الحراك الذي ترغب فيه المملكة فسيكون نوعاً من المواجهة الميدانية المباشرة مع الطرف الآخر. وهذه المواجهة مختلفة في ظروفها عن 14 آذار 2005، لأنّ الفتنة المذهبية لم تكن مُندلعة آنذاك في سوريا والعراق وسائر الشرق الأوسط… وهنا، يجيب المصدر المُطّلع: لن تقع الفتنة في لبنان إذا نَزلَ خصوم «حزب الله» بتعبير سلميّ إلى الشارع. فالفتنة تحتاج إلى طرفين مسلّحين، ولا أحد مسلحاً سوى «حزب الله» في لبنان.
وانطلاقاً من هذا الموقف، يكشف المصدر أنّ السعوديين عاتبون على حلفائهم إلى حدّ الغضب. وهم يريدون من حليفهم السنّي، أي الحليف الأساسي تيار «المستقبل»، أن يتّخذ مواقف أكثر حزماً في مواجهة جُموح «الحزب»، فهو الطرف الوحيد المُهيّأ لذلك.
ومن هنا، إنّ المملكة العربية السعودية هي التي طالبت الرئيس سعد الحريري، وبقوّة وإلحاح، بالمجيء إلى لبنان، لأنّ هناك دوراً يجب أن يضطلع به في هذه المرحلة، لجِهة شَدّ العصب السنّي وإنهاء حال التضعضع التي سادت تيار «المستقبل» خلال غيابه في الخارج وبروز التناقضات بين الكوادر والأنصار في العديد من وجهات النظر، ولَمّ الشمل داخل صفوف 14 آذار.
وفي هذا الإطار، تتمسّك المملكة بتحالفها مع الدكتور سمير جعجع تحت أيّ ظرف. ولذلك، هي التي شجَّعت الحريري على إنهاء الملابسات التي أعقبَت احتفال «البيال» في 14 شباط الفائت بين الرجلين، والتي هدَّدت العلاقات بينهما وداخل فريق 14 آذار كَكل.
وبناء على هذه التوجهات، باشرَ الحريري سريعاً سلسلة جولات مناطقية التقى خلالها جماهير «المستقبل» وفتحَ باب بيت الوسط لهذه الغاية، وأطلقَ دينامية سياسية تعوِّض ما فات في السنوات الأخيرة وتُرجِع «المستقبل» إلى قيادة الطائفة السنّية، برعاية السعودية.
ويقول المصدر إنّ الخطاب العالي النبرة جداً ضد إيران و«حزب الله»، في احتفال «البيال»، كان عنواناً لنهج الحريري في المرحلة الجديدة. فهو رَفع السقف في مواجهة «حزب الله» تاركاً له باب الوساطة مفتوحاً من خلال علاقة تَواصل حثيثة مع الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط. لكنّ الأبواب سرعان ما أوصِدت بين الطرفين.
ولدى السؤال: ولكن، أليس مجيء الحريري في هذه الظروف وتجواله في المناطق يمكن أن يعرِّضه للمخاطر الأمنية التي كانت السبب في خروجه من لبنان؟ يجيب المصدر: ما من عمل سياسي يكون نائياً عن الخطر مئة في المئة. وكلّ الذين يعملون في السياسة في لبنان عليهم التصرّف وفق مُقتضيات الحذر. وهذا الحذر لا يستدعي الابتعاد وتَرك الساحة خالية أمام الآخرين.
وبناء على هذه المنطلقات السعودية للعلاقة مع لبنان، تدور أسئلة في أوساط لبنانية عدة: هل ينسجم النهج السعودي المُستجدّ مع المعطيات اللبنانية الشديدة التعقيد والحساسية، أم سيؤدي بلبنان إلى أزمة أكبر بكثير من تلك التي يغرق فيها اليوم؟
ثمّة من يتفاءل بأنّ السعودية ستعود عن قراراتها العقابية بحقّ لبنان، وستنتهي الأزمة مع انتهاء فورة الغضب وتَدخُّل الوسطاء. ويقول هؤلاء إنّ قَطع مساعدة الـ3 مليارات دولار عن الجيش اللبناني الذي يواجه إرهاب «داعش» و«النصرة» وشبيهاتِهما لا يَروق للقوى الدولية الراعية للجيش، والتي تزوِّده بالعتاد والمعلومات دعماً له في معركته. فالولايات المتحدة وفرنسا ليستا راضيتين عن المقاطعة السعودية للجيش، وهما أبلغتا ذلك إلى الرياض.
لكن في المقابل، هناك مَن يعتقد أنّ السعودية لن تستجيب للوساطات الدولية هذه المرّة، لأنّ أحداً لا يستطيع أن يُبرِّر لها لماذا عليها أن تموِّل بلداً يقوم بعض فئاته بمحاولات لزعزعة استقرارها. ولذلك، ستمضي السعودية في التصعيد، ولَو دفع اللبنانيون جميعاً الثمن وذهبَ الصديق في جَريرة الخصم.
فجماهير «الحزب» ستدفع ثمن محاولاته لتخريب استقرار الخليج، والجماهير الأخرى ستدفع ثمن سكوت زعمائها وعدم استعدادهم لمواجهة «الحزب»!
وهنا، يجدر التأمّل بمظاهر اهتزاز الأمن وارتفاع نبرة المواقف السياسية. وفي الساعات الأخيرة بَرز إلى الواجهة عاملان مثيران للانتباه:
– باخرة السلاح التي ضُبطت في اليونان، وكانت وجهتها من تركيا إلى لبنان.
– إرتفاع سقف المواقف السياسية إلى حدود غير مسبوقة، من جهة «الحزب»، ومن الجهة المقابلة، ومنها موقف الوزير أشرف ريفي الخارج من الحكومة وعن «المستقبل» احتجاجاً.
وفي الخلاصة، ما يبدو أنّ الآتي الى لبنان هو كبير وخطِر، وأنّ لبنان يَترنّح جديّاً هذه المرّة.