مع انكشاف الخطاب السياسي العربي بألوانه المتعددة وظهور مضمونه السلطوي والاستبدادي، ومع انخراط قوى «المقاومة» في حروب طائفية رغم ادعائها الحفاظ على بوصلة تشير دائماً الى فلسطين وحفرها أخدوداً لا يُردم بين مهمة «التحرر» وبين «التحرير»، بات مُلحاً التخفف من عبء مجموعة كبيرة من الآراء والأحكام التي اعتبرت حقائق مقدسة لا تقبل المساءلة ولا النقاش.
صار لازماً، بهذا المعنى، الدفع بفكرة المراجعة بأوجهها السياسية والتاريخية، حتى لو نالت الفكرة هذه اليوم نصيبها من اتهامات التحريف والشطط واستخدام مفردات «العدو» الغربي والوقوع في لجّة المنطق الاستشراقي وما يعادل ذلك من صفات.
وبعد اربعة اعوام ونيف من الثورات التي شكلت مرايا هائلة الحجم لاجتماعنا واقتصادنا وسياستنا ورؤيتنا الى انفسنا، وبعد الأهوال التي دمرت بلداناً بكاملها وقضت على مئات آلاف الأرواح وشردت الملايين، لم يعد من المعقول ولا من المقبول استعادة اساليب الحكم بما تتضمن من استحواذ ضيق على الثروة والسلطة، وأساليب التعليم بما فيها من انتاج اجيال لا مكان لها في سوق العمل ومسلحة برؤية ظلامية الى الماضي والحاضر، وأساليب التفكير واستنباط الحلول بما فيها من تهرب من الاستحقاقات الداهمة وتجاهل الحقائق الجارحة والتصور ان المستقبل سيحمل الحلول من دون بذل الجهد اللازم الآن.
بدّدت المسالك السياسية والفكرية هذه ما كان يتراكم من بناء في مجتمعاتنا وأرجأت الى المستقبل البعيد كل امكان لحل التناقضات الراسخة عندنا.
ولعل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتلخص في شجاعة مواجهة الماضي، في الاعتراف بعدمية الخيارات السياسية الكبرى التي افضت الى خسائر غير قابلة للتعويض ليست فلسطين إلا عنواناً لها، في الإقرار اننا لم نتعامل مع العالم المحيط بنا – شرقاً وغرباً – بالجدية التي يستحق ولم نستوعب قضايا الآخرين ولم نتفهم ضرورات التغيير، في نزع القداسة عن «قامات» تاريخية جل انجازاتها انها ورطت اجيالاً من العرب في حروب وصراعات لا طائل لها ولا معنى وزجت بمئات الآلاف في السجون وأقبية التعذيب والاعتقال.
ربما آن الأوان لاعتبار فلسطين قضية سياسية والابتعاد من رطانة الأوصاف الدينية التي استخدمها بعضهم لإضفاء أهمية على قضيته، فوجدنا انفسنا نقاتل في ملعب يتقابل فيه «الحق التاريخي للشعب اليهودي» مع مقولة «فلسطين ارض وقف اسلامية كلها». وها نحن ندفع ثمن عبثية المفاضلة بين حقين إلهيين، غافلين عن مأساة تشرد اناس من لحم ودم هم الشعب الفلسطيني.
ربما آن الأوان للتذكير بموقف ابن خلدون – الفقيه قبل ان يكون مؤرخاً او باحثاً في الاجتماع والعمران – من الخلافة باعتبارها مرحلة استثنائية ارتبطت بشخصيات استثنائية كالرسول والصحابة، ولن تعود الخلافة ما لم تعد تلك الشخصيات الى الحياة لارتباط الخلافة بالنبوة، وذلك قبل قرون من آراء الشيخ علي عبد الرازق ممن رفضوا الخلافة ودعوا الى الدولة الحديثة.
وربما آن الأوان للتوقف عن استعراض المعرفة والبدء بإنتاجها، كمفاهيم تتعلق بتسيير الحياة اليومية للمواطن العادي الذي يتعرض الى كمية تفوق الخيال من التضليل تارة باسم الدين وتارة باسم الحق التاريخي وكل ذلك في قراءات تنتجها مجتمعات مأزومة تأبى الاعتراف بسقوطها.
أتاحت الثورات العربية، رغم مآلاتها الحزينة، فرصة الالتفات الى مكونات الذات والتمعن في حقائق سعت السلطات الى اخفائها وطمس معالمها. وسيكون مستقبلاً كالح السواد ذاك الذي نظل فيه على قناعتنا أن «الآخر» سبب كل علاتنا ومصائبنا.