Site icon IMLebanon

الأولوية العاجلة: إنهاء تلازم الإرهاب والتوسّع الإيراني  

  

 ما بين المناورات المزمعة لمصر والسعودية مع دول أخرى والمسار الذي تبدأ الجامعة العربية استكشافه مع رؤساء أركان الجيوش، على خلفية «عاصفة الحزم»، يغدو مشروع القوة العربية المشتركة أكثر من مجرد فكرة، بل إن تلك المناورات تعطيه شكلاً، وتشير إلى أن واقعاً جديداً يوشك أن يولد في الإقليم. كان لا بدّ من بدايةٍ ما ولعلها تلوح في أفق المنطقة، بعدما أطلقت المملكة العربية السعودية عملية «عاصفة الحزم». فاللحظة الراهنة مفصلية، تقع عشية تغيير آت من مفاعيل البرنامج النووي الإيراني، إذا استكمل «الاتفاق» طريقه أو لا، ومن انتقال «الحرب على داعش» إلى مرحلة الأنبار – نينوى تمهيداً للرقّة – دير الزور، وطبعاً من الحدث اليمني – الخليجي الذي بدأت تداعياته تنعكس أيضاً على سائر أزمات العالم العربي وتحوّلاته.

لا شك في أن الجانب العسكري عنصر أساسي في استعادة الحيّز الاستراتيجي العربي المسلوب قطعاً قطعاً بين أطماع إيران وإسرائيل، مع بعض الفتات لتركيا الطامحة إلى استزادة. ولا تصطدم الطموحات العربية بهذا الثلاثي الإقليمي فحسب، بل بأهداف الهيمنة الأميركية على المنطقة وسعيها الدائم إلى العبث بعالم عربي منقسم وغير متضامن. وفي العقدين الأخيرين ترجّحت الولايات المتحدة بين محاربة الإرهاب والتطرّف، وبين نيات لم تتحقق لحل النزاعات أو إصلاح الأنظمة، لكنها فضّلت عملياً المساهمة في صنع هذا المشهد الإقليمي البائس عربياً، سواء بغزو العراق واحتلاله، أو بالتواطؤ مع حكومات إسرائيلية متطرفة تريد «شرعية» لابتلاع ما هو محتلٌّ من أرض فلسطينية، أو بالتناغم مع نظام إيراني متطرّف يدير أجندة لـ «تصدير الثورة» عبر غزوات يخوضها الشيعة المؤدلجون والمتعسكرون حيثما يوجدون في البلدان العربية، وهي غزوات ظاهرها رفع المظلومية اللاحقة بهم وباطنها الالتحاق بـ «الإمبراطورية» الفارسية.

في السباق الإقليمي، تمكّنت إسرائيل – ليكود من إبقاء تحالفها مع أميركا، محتفظة بكل المنافع العسكرية والمالية، ومتخففة من أية التزامات، بل نجحت في ترويض إدارة باراك أوباما وتعطيل كل مبادراتها الشرق – أوسطية. في المقابل استطاعت إيران أن تحوّل برنامجها النووي إلى عصا وجزرة في آن، واضعة المنطقة أمام معادلة إمّا/ أو: فإما أن تواصل السعي إلى «القنبلة» مستدرجة مواجهة حربية شاملة، أو تقبل بتجميد موقّت لبرنامجها مع إبقاء «قنبلتها» الأخرى (عسكرة الشيعة) فاعلة ومهدّدة في عموم المجتمعات المحيطة بها. ومن الواضح أن الولايات المتحدة رضخت للأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل وإيران، اللتين تلتقيان ضمناً عند الحفاظ على النظام السوري، ولديهما خطط ومبادرات لتقاسم النفوذ في سورية كأفضل «ضمان» للتسوية السياسية، عندما يحين موعدها.

وكانت تركيا جذبت اهتمام واشنطن واستحقّت في نظرها دوراً إقليمياً، أولاً بنمطها الذي برهن أن تعايش الإسلام والديموقراطية ممكنٌ ويوفّر نموذجاً لإشراك الإسلاميين في الحكم كحلٍّ للإشكالية التي شغلت أميركا بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، وثانياً بتموضع تركيا سريع على خط «الإسلام السياسي» الصاعد إلى الحكم في بلدان عربية متحوّلة. لكن تقلّبات شهدتها تركيا – أردوغان جعلت أميركا غير حاسمة في الاعتماد عليها. فالدولتان وقعتا في أفخاخ تقديرات غير واقعية لـ «كفاءة» هذا الإسلام السياسي العربي، إذ لم تتحسّبا لانعدام حسّ الدولة لدى حكم «إخواني» منتخب غداة ثورة في بلد مثل مصر، وسرعان ما افترقتا حول مَن يمكن «الوثوق» به كمعارض ومَن يمكن تسليحه في سورية، وعلى رغم التقائهما الضمني على إشراك الميليشيات الليبية (فشلت مرّتين في الانتخابات) في الحكم إلا أن موقف واشنطن يواصل التقلّب والغموض حيال الحكومة الشرعية ومناوئيها فيما تساند أنقرة الميليشيات المسيطرة على العاصمة طرابلس، مثلما تفعل إيران مع حوثيي اليمن المسيطرين على العاصمة صنعاء.

في مختلف السيناريوات تعاملت أميركا – أوباما مع معادلات القوة الإقليمية إما لاحتوائها أو للإمساك بخيوطها، من دون نجاح مؤكّد، وبطبيعة الحال لم تكترث لمعادلات الضعف التي كانت تعكسها الشكاوى العربية من تلك الأطراف الثلاثة وتدخلاتها وعربداتها. وسواء كان ذلك تعبيراً عن تراجع في قوة أميركا ونفوذها أو انعكاساً لرغبة دفينة ومتزايدة في وضع العالم العربي تحت وصايات إقليمية، فإن أميركا بدت متعمِّدة إهمال خطرين واضحي المعالم: الأول، أن منظومة الوصايات التي تتصوّرها هي مجرّد تعاقدات وترضيات لا تؤسس لأي استقرار إقليمي. والثاني أن تجاهل العرب في توازنات المنطقة وتجاهل التوازنات حتى بين «الأوصياء» لا يعنيان سوى التخطيط المتقصّد لنزاعات مستقبلية لا نهاية لها.

يُضاف إلى ذلك عنصرٌ قد يكون من الساذج إيراده في تحليل العلاقات الدولية، لكنه يطرح نفسه بقوة، عشية اللقاء الأميركي – الخليجي في كامب ديفيد، ويتمثّل في الأسئلة: إذا لم يكن العرب «حلفاء أوّلين» لأميركا كإسرائيل ولا «حلفاء درجة ثانية» كتركيا ولا «أعداء في سبيلهم إلى أن يصبحوا شركاء» كإيران، ففي أي منزلة تضعهم هذه العلاقة الطويلة مع أميركا، ولماذا جعلت أميركا من ثوابتها الاستراتيجية إضعاف العالم العربي وزعزعة تماسكه، ولماذا تترك إسرائيل تستغلّ هذا الضعف لترفض أي «سلام»، ولماذا استعدَت أميركا إيران بالعرب وتستعدي العرب بإيران، ولماذا سكتت استخبارياً وسياسياً وإعلامياً على تدخلات إيران في العالم العربي فأتاحت لها الوصول إلى اليمن لتهديد السعودية ودول الخليج، آخر منطقة مستقرّة في المشرق العربي؟ كان أوباما عزا شرط إسرائيل اعتراف إيران بوجودها إلى «حسابات خاطئة» تفترض ألّا توقّع واشنطن على اتفاق مع النظام الإيراني «إلا إذا تغيّر كلياً». لكن، ماذا عن حسابات أوباما المختلّة تماماً بين قبوله نظام «تصدير الثورة» الإيراني بكل اعتداءاته على الدول والمجتمعات العربية، وبين مطالبته «حلفاء الولايات المتحدة» بإصلاحات داخلية فيما هم يؤكدون أن أمنهم هو الآن أولويتهم لأنه مهدد من جانب إيران. كأن الرئيس الأميركي لم تبلغه توعّدات إيرانية مكشوفة للسعودية غداة الضربات الأولى لـ «عاصفة الحزم». وفي أي حال، هذا لا ينفي أن الإصلاحات والاهتمام بالشباب ضرورة وواجب، سواء أشار أوباما أو لم يشر إليها.

تدرك الجامعة العربية، في مقاربتها لمسألة «القوة المشتركة» أن المطلوب رؤية سياسية واسعة وواضحة، قد تكون عناصرها متوافرة لكنها لم تناقش بعمق وتصميم لتصبح خريطة طريق عربية للمرحلة المقبلة. فالعسكريون لا يستطيعون تحديد معالم «القوة المشتركة» ما لم يكن هناك وضوح واستعداد حقيقي للالتزام. هناك أولويتان متلازمتان في سياق التطوّرات الراهنة: محاربة الإرهاب ووقف المدّ الإيراني. في الأولى، كان العسكريون أبدوا ملاحظات يُفهم منها أن نهج «التحالف الدولي»، كما يقدّمه الأميركيون، معنيٌّ فقط بإخراج «داعش» من العراق، لكنه يلتزم الغموض في ما يتعلّق بسورية حيث لا يزال النظام يجد متسعاً لإقامة حالات «داعشية» ويوظّفها ويستخدمها كما في مخيّم اليرموك وغيره، لذلك ليس معروفاً ولا مؤكداً أن أميركا مع الجانب العربي ضد «داعش» وامتداداته هنا وهناك، ما يحتّم اعتماد العرب على قدراتهم وهي موجودة.

أما الأولوية الثانية التي تؤكّد تلازم الإرهاب ونهج العدوان والتخريب الإيرانيين فقد سبق للعسكريين أن لمسوها في تحليلهم لظروف تشكّل تنظيم «داعش» ولوجيستيات اختراقه سورية ثم تمدّده في العراق، ثم لمجريات الحرب على هذا التنظيم. ولعل الاستنتاج الأول للعسكريين أن إيران تبدو الدولة الوحيدة في الإقليم المستفيدة من وجود «داعش» ومحاربته، وطالما أنها محفّزة للإرهاب فهي ليست شريكة في محاربته، ولا يمكن قبول أي «تعايش» بينها وبين الأميركيين وإلا فإن وجود العرب في «التحالف الدولي» سيصبح بلا أي معنى. أما الحال الحوثية في اليمن فغدت بنية عسكرية تستند إليها إيران لمحاصرة الخليج، ولم يكن هناك خيار آخر غير مواجهتها بـ «عاصفة الحزم».