ندرك جيداً أن الولايات المتحدة الأميركية دولة مؤسسات تشترك بأقدار متفاوتة في عملية صنع القرار السياسي لأكبر قوة عظمى في عالمنا المعاصر، ولكن ذلك لا يغير أيضاً من حقيقة أخرى ترى أن الحزب الذي يصل إلى السلطة -جمهورياً أو ديموقراطياً- يحدد من خلال شخصية الرئيس وصلاحياته الكبيرة نسبياً القدرة على تفعيل الدور وتوصيف المرحلة التي يحكم فيها، ولقد شاهدنا كيف أن الإدارات الأميركية المختلفة والرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض، تركوا بصماتهم على سلطة الحكم بل وشكل العلاقات الدولية في عصورهم المختلفة، ولعلنا نتذكر أسماء الرؤساء الأميركيين في العقود الست الأخيرة من دوايت آيزنهاور إلى باراك أوباما لكي نكتشف تأثير شخصية رئيس الولايات المتحدة في صبغ سياستها وترك بصماته على السياسات الأميركية الخارجية والداخلية، خصوصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، وجدير بالذكر أن الحرب العالمية الأولى كانت إيذاناً بدخول الولايات المتحدة بقوة في معترك الحياة السياسية الدولية، بدءاً من مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون وإنشاء عصبة الأمم ومقرها في جنيف قبل أن تنقل الحرب العالمية الثانية مركز الثقل إلى الجانب الآخر من الأطلسي لتولد منظمة الأمم المتحدة بمقرها في نيويورك، ولا يخفى علينا أن الولايات المتحدة اعتمدت «سياسة العزلة» وفقاً لمبدأ الرئيس الأميركي مونرو الشهير الذي صدر عام 1831 وقصر التدخل الأميركي الخارجي على شؤون الأميركتين الشمالية والجنوبية مع التحفظ في الانزلاق إلى مستنقع السياسة الدولية بحجمها العالمي الكبير، ولكن الحربين العالميتين في القرن العشرين أسقطتا ذلك المبدأ ودفعتا الولايات المتحدة نحو عالم صاخب تلعب فيه واشنطن دوراً مؤثراً وملحوظاً. وقد يكون من المستحب أن نستعرض بصمات الرؤساء الأميركيين، وخصوصاً آخر عشرة منهم، حتى نكتشف أين يقع العرب في العقل الأميركي، بدءاً من إدارة الجنرال دوايت آيزنهاور وصولاً إلى التنافس الحالي المحموم بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، ونوجز ذلك في ما يلي:
أولاً: تولى الجنرال دوايت آيزنهاور رئاسة الولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير) 1953 باعتباره القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا فجاء إلى السلطة وهو يحمل أكاليل الغار بتوافق أميركي عام أمام منافسه، وظلت قيادته للولايات المتحدة مستقرة في ظل عالم يلعق جراحه بعد حرب عالمية ضروس راح ضحيتها أكثر من 50 مليون إنسان، ولعل أهم ما يميز رئاسة آيزنهاور هو ذلك المشروع المعروف باسم «مبدأ آيزنهاور» والذي بات مطروحاً على الساحة الدولية منذ بدايات 1957 بعد نهاية حرب السويس مباشرة، حيث تحدث آيزنهاور عما سمي بـ «نظرية الفراغ في الشرق الأوسط»، وقد كانت في الحقيقة ترتيباً لأن ترث الولايات المتحدة المناطق التي كان يسيطر عليها الاستعمار الأوروبي متمثلاً في بريطانيا وفرنسا، فلقد واجهت المنطقة ذلك المشروع الأميركي بالرفض القاطع، وقادت القاهرة الناصرية الحملة ضده، وأصبح «مبدأ آيزنهاور» ونظرية «الفراغ في الشرق الأوسط» بمثابة المقدمة لسياسة الأحلاف التي لعبت فيها بغداد قبل ثورة 1958، وحكومة أنقرة وباكستان أيضاً، دوراً ملحوظاً في ذلك الوقت، ويذكر العرب لآيزنهاور أنه الرئيس الأميركي الذي أمر إسرائيل بسحب قواتها من سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ثانياً: عندما وصل الرئيس الأميركي جون كينيدي الى السلطة كان وصوله بمثابة ظاهرة جديدة على الأميركيين والعالم أيضاً، لرئيس شاب نسبياً، فضلاً عن كاريزما تميزه شكلاً وموضوعاً، وقد استبشر به العرب خيراً في البداية، هو الذي تبادل الرسائل مع عبدالناصر، وقال له الأخير في واحدة منها تعليقاً على وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين أنه «كان وعداً ممن لا يملك لمن لا يستحق»، وكان جون كينيدي بمثابة إطلالة عصرية أعادت للشخصية الأميركية روحاً جديدة وخلقت لها صورة ذهنية مختلفة، خصوصاً لدى أجيال الشباب في أنحاء العالم ولكن قوى اليمين الأميركي الرافضة التغيير شعرت بأن سياساته تبشر بمرحلة جديدة قد تتقلص فيها مساحة المتاح لهم، فكانت مؤامرة اغتياله في تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 بمدينة تكساس الأميركية، وبرغم كل التحقيقات التي جرت فإن مصرعه لا يزال حتى الآن أمراً غامضاً لا يمكن الجزم باسم فاعله حتى مع كثرة الاتهامات لقوى دولية وأميركية مختلفة.
ثالثاً: تولى نائب الرئيس الأميركي ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة، حتى أنه أقسم اليمين الدستورية في طائرة العودة من تكساس إلى واشنطن بعد مصرع كينيدي مباشرة، فأكمل مدة الرئيس الراحل في سدة الحكم ودخل الانتخابات بعد ذلك ليتولى رئاسة الولايات المتحدة لولاية ثانية، وهو الرئيس الأميركي الذي عاصر حرب 1967 ونكسة العرب فيها واحتلال إسرائيل أراضي جديدة، وتحكى عنه قصة مثيرة، حيث دعا ذات يوم أربعة من السفراء العرب في واشنطن وبينما هو جالس إليهم بدأ جونسون يخاطب كلبه (النائم تحت قدميه) قائلاً له: يا كلبي العزيز إن هناك خصماً قوياً كثير العدد كان يهدد دولة صغيرة جارة ولكن تلك الدولة الصغيرة تمكنت من هزيمة أعدائها رغم كثرة عددهم وتوالي تهديداتهم لها عبر السنين! وكان بذلك يسخر من العرب بهذا الحديث غير المباشر مع كلبه في البيت الأبيض! قد تكون هذه القصة صحيحة أو مبالغاً فيها أو حتى خيالاً برمتها، ولكنها تظل مؤشراً إلى الروح العدائية التي شعر بها الجميع من الرئيس الأميركي ليندون جونسون تجاه العرب عموماً ومصر عبدالناصر خصوصاً، ولقد أكمل فترة رئاسته داعماً لإسرائيل بشكل مطلق تقريباً.
رابعاً: وصل إلى السلطة سياسي محنك هو ريتشارد نيكسون، الذي كان نائباً للرئيس آيزنهاور لعدة سنوات، وهو معروف بخبرته الواسعة، خصوصاً في الشؤون الدولية، وفي سنوات حكمه القصيرة استطاع أن يخترق الصين وأن يُطَبّع العلاقات مع بكين، كما أنه استعاد الشرق الأوسط إلى الحوزة الأميركية بشكل ملحوظ، وكانت زيارته القاهرة عام 1974 والاستقبال الحافل من جانب الرئيس الراحل أنور السادات، بمثابة عودة رسمية للنفوذ الأميركي إلى المنطقة، ولقد انتهت رئاسة نيكسون باستقالته بعد ما سمي «فضيحة ووترغيت»، أي تنصت أجهزة الحكومة على الحزب الديموقراطي المنافس، وبذلك فقد البيت الأبيض واحداً من أبرع الرؤساء ولكن من أسوئهم حظاً، ورغم أنه حاول أن يفتح الجسور مع العرب، فإن دعمه لإسرائيل لم يتوقف كالمعتاد، ولعب وزير خارجيته هنري كيسنجر دوراً بارزاً في هذا السياق.
خامساً: جاء نائب الرئيس الأميركي نيكسون وهو جيرالد فورد إلى رئاسة الولايات المتحدة ليكمل مدة رئيسه السابق، وإن لم يوفق في الانتخابات التالية، فكان فورد أحد النماذج القليلة لسيد البيت الأبيض الذي لم يفز في أي انتخابات، وكان البعض يتندر عليه قائلين إنه لا يستطيع أن يمشي وهو يمضغ قطعة من اللبان (العلكة) للدلالة على أنه لا يستطيع أن يقوم بعملين في وقت واحد حتى وإن تعلق الأمر بأبسط الأشياء، ولقد مضى فورد على درب أسلافه في دعم إسرائيل والحرص على أمنها.
سادساً: وصل الرئيس (القديس) جيمي كارتر إلى السلطة وهو المعروف باهتمامه الشديد بقضايا الحريات وحقوق الإنسان ودعم الديموقراطية ورغم أنه أمضى في الرئاسة الأميركية ولاية واحدة، فإنه ترك بصمات قوية على الشرق الأوسط، فهو عراب سياسات كامب ديفيد التي أدت وقتها إلى شق الصف العربي ولا زالت نتائجها ماثلة حتى اليوم وفي عهده اندلعت الثورة الإسلامية في إيران واحتجز الثوار الإسلاميون أعضاء البعثة الأميركية لمدة 444 يوماً وقام كارتر في آخر فترة رئاسته بمغامرة فاشلة بطائرات الهليكوبتر لتحرير الرهائن فكانت واحدة من الأسباب التي أدت إلى إخفاقه في الانتخابات الرئاسية التالية.
سابعاً: تعتبر رئاسة رونالد ريغان للولايات المتحدة، بعدما كان ممثلاً من الدرجة الثانية، واحدة من أنجح الفترات لرئيس أميركي قضى فترتين في الحكم تداعى خلالها الاتحاد السوفياتي السابق وتمكنت الولايات المتحدة من أن تصبح القوة الأعظم في عالمنا المعاصر، كما تميز الاقتصاد الأميركي في فترة رئاسته بتقدم ملحوظ، وكان ريغان معروفاً بضحالة فكره وقلة معلوماته ولكنه كان محظوظاً أكثر من غيره من الرؤساء، ولقد رحل منذ سنوات بعد أن أصابه مرض الخرف (ألزهايمر) حتى إنه كان لا يتذكر أنه كان رئيساً للولايات المتحدة أمضى في البيت الأبيض ثماني سنوات.
ثامناً: كان جورج بوش الأب نائباً للرئيس ريغان، وقبلها مندوباً دائماً لبلاده في الأمم المتحدة بعد أن كان أول سفير في بكين بعد تطبيع العلاقات بينها وبين واشنطن، ولعل أهم ما ميز فترة حكمه هي حرب الخليج عندما غزا صدام حسين الكويت وتكاتف العرب مع الولايات المتحدة لتحريرها، ولذلك تمتع ذلك الرئيس الأميركي بشعبية ملحوظة بين دول الخليج، كما أن المصريين يذكرون له إسقاط الديون العسكرية الأميركية على مصر في عهده بموافقة الكونغرس.
تاسعاً: تمكن شاب صاعد من الوصول إلى البيت الأبيض وأطاح بجورج بوش الأب وقاد الولايات المتحدة لفترتي رئاسة وحصد شعبية نسبية في العالم العربي، وكان بيل كلينتون أول رئيس أميركي يزور معسكرات اللاجئين الفلسطينيين ويبكي تأثراً أمام الفتيات اللواتي فقدن آباءهن على يد الجيش الإسرائيلي بل وخاطب المجلس الوطني الفلسطيني، وقد حاول في نهاية رئاسته أن يصل إلى حل للوضع المتأزم في الأرض المحتلة ودعا إلى كامب ديفيد الثانية ولكن الغموض الإسرائيلي في المقترحات إلى جانب غياب الإرادة لدى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أجهضت الأمر برمته، ورغم تعرض كلينتون لمتاعب شخصية، فإنه يظل واحداً من أفضل الرؤساء الأميركيين.
عاشراً: يعتبر جورج دبليو بوش واحداً من رؤساء الصدفة في التاريخ الأميركي الحديث، وعلى رغم أنه أمضى في البيت الأبيض فترتين كاملتين، فإنه كان أسير سيطرة المحافظين الجدد وهو الذي ورط الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، ولقد زرع ذلك الرئيس بذور الكراهية تجاه واشنطن في كثير من بقاع العالم.
وتعتبر رئاسة الرئيس الحالي باراك أوباما لفترتين متتاليتين واحدة من أضعف الفترات لرئيس أميركي في العقود الأخيرة، فرغم الازدهار الاقتصادي وتمرير قوانين صعبة مثل قانون التأمين الصحي، فإنه يبقى ذلك الرئيس الذي نجح في تقسيم العالم الإسلامي وتقزيم الوطن العربي وإحداث شرخ كبير في العلاقات الدولية المعاصرة.
إننا نريد أن نقول من كل ذلك أن ما نراه من منافسة حادة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون إنما هو مؤشر لحالة التردي على مسرح الأحداث في أقوى دولة في عالمنا المعاصر!