لم تقع الحرب بين الأميركيين والروس في سورية. انتهت تهديدات موسكو بالعودة إلى اتفاق التنسيق مع واشنطن في الأجواء السورية. لا يعود غضبها إلى إسقاط «التحالف الدولي» طائرة «سوخوي 22». أزعجها أكثر أن قيادة التحالف لا تُعلمها بتحركاتها الميدانية أو الجوية ولا ترغب في التنسيق. أي أنها تتجاهل مصالحها. في حين أنها كررت في أكثر من مناسبة استعدادها للتفاهم في الحرب على «داعش». ما حدث احتكاك طبيعي متوقع. وقد يتكرر كلما اقترب يوم تحرير الرقة بعد الموصل، أو كلما ازداد انخراط الرئيس دونالد ترامب في الإقليم، من اليمن إلى العراق بحدوده الغربية وبلاد الشام بشرقها وجنوبها. علما أنه تعهد أن لا حروب جديدة في الشرق الأوسط. ومثله أعلن الكرملين قبل أيام أن الحرب في سورية توقفت! وهو يستعجل مسارَي آستانة وجنيف لتأكيد هذا «التوقف». ويسعى إلى التفاهم على آليات مراقبة «مناطق خفض التوتر». ذلك أن تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة يقوض استراتيجيته ويطيح مشروعه لإنهاء الحرب. لذلك رفع سقف خطابه بعد تعرض قوات النظام والميليشيات الحليفة لأكثر من ضربة أميركية أثناء تقدمها نحو قاعدة التنف والمثلث الحدودي مع الأردن والعراق. أوحى بعزمه على الرد، لأنه لا يريد لدمشق أو طهران أن تديرا اللعبة أو تبدلا قواعدها. وساهم في إشعال بعض الجبهات، وساهم أسطوله في المتوسط ببضعة صواريخ، وأعاد نشر بطاريات…
الاحتكاك متوقع إذاً ما دام السباق قائماً على تقاسم النفوذ في سورية. ويمكن هذا السباق أن يؤدي إلى إطالة الحرب على «داعش». بل قد يطيل عمر الأزمة في بلاد الشام بعد القضاء على التنظيم الإرهابي. روسيا تجهد لوقف القتال بترسيخ فكرة «مناطق خفض التوتر». أي أن تنشر هي وتركيا جنوداً في منطقة إدلب، وتتولى وإيران مراقبة المناطق المحيطة بدمشق، وتراقب الولايات المتحدة والأردن المنطقة الجنوبية في درعا. هذا ما أوضحه أحمد كالين الناطق باسم الرئيس رجب طيب أردوغان. بالطبع تبقى هذه الخريطة ناقصة. فالصراع هو على الرقة وعلى تركة «داعش» عموماً. الرئيس ترامب أقفل قناة الحوار مع طهران وأطلق حلفاً واسعاً في الإقليم لمواجهة نفوذها وتمددها. لكنه لم يطلق خطة أو يقدم استراتيجية لتحقيق هذا الهدف. تماماً كما يتعامل مع حربه على الإرهاب. فهو على خطى الإدارة السابقة لا يملك خطة لما بعد «داعش». ولا يملك أجوبة عن مستقبل سورية ومستقبل دور روسيا وإيران في هذا البلد. ما يستعجله هو إنجاز نصر في تحرير «عاصمة الخلافة». كما أن الرئيس السوري الذي لا يروقه تقاسم، بل يريد تحرير الرقة لتوكيد «شرعيته» وأهليته في محاربة الإرهاب! مثلما ترغب حليفته إيران في المشاركة في هذا التحرير لتوكيد حضورها الكبير في الإقليم وقدرتها على إدارة شؤونه. ومثلها تفعل تركيا التي تريد حضوراً يضمن لها قطع أوصال مناطق الكرد وأحلامهم.
هذا الازدحام ،أو بالأحرى التزاحم، في أرض سورية وسمائها، كما رأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يجعل من الصعب على اللاعبين الكبيرين، روسيا وأميركا، أن يقررا وحدهما مسار الأزمة. القوى الإقليمية والمحلية لا تنتظر نتيجة النقاش في الكونغرس ودوائر الإدارة في الاستراتيجية المنتظرة. لا تتوقف عند تحذير قوى في واشنطن من مغبة الانخراط في حروب المنطقة وإصرارها على قتال «داعش» أولوية. ولا تتوقف أيضاً عند دعوة قوى أخرى إلى رفع وتيرة المواجهة مع إيران باعتبارها معركة مصيرية لمستقبل مصالح الولايات المتحدة وعلاقاتها ودور حلفائها في المنطقة. وتعتقد هذه القوى أن غياب الخطة الاستراتيجية يتيح للأطراف الآخرين في الملعب السوري كسب مزيد من الأرض، كما هي الحال اليوم. ولا شك في أن النظام وإيران يحرزان تقدماً في كثير من المناطق على حساب الفصائل المعارضة. ويسعيان إلى تقويض مشروع «مناطق خفض التوتر». ولم تكتف طهران بإطلاق صواريخ باليستية على منطقة دير الزور حاملةً جملة من الرسائل الواضحة، بل بدأت ببناء قاعدة قرب تدمر تتضمن مطاراً ومهبطاً لإطلاق طائرات من دون طيار ومحطة مراقبة أرضية. وهدفها والنظام تقويض تفاهم موسكو وواشنطن على هدنة طويلة توفرها صيغة «مناطق خفض التوتر» التي قد تكرس لاحقاً أقاليم في نظام فيديرالي. في المقلب الآخر تحشد تركيا قواتها مهددة بضرب عفرين، وتتوعد بتقويض حلم الكرد في حكم ذاتي بعدما دفعت البنتاغون إلى التعهد باستعادة كل الأسلحة التي يمد بها «وحدات حماية الشعب» بعد انتهاء معركة الرقة.
في خضم هذه الأجندات المختلفة، لا تملك إدارة الرئيس ترامب استراتيجية تمكّنها من التغلب على خصومها في سورية. أو فرض رؤيتها وأجندتها. كما أن رفع عديد قواتها أو توسيع رقعة انتشارها في شرق البلاد وشمالها لن يغيرا في مآل الصراع، أو يَحُولا دون انتصار خصومها في المعركة في النهاية. ذلك أن عشرات الآلاف من جنودها الذين غزوا العراق لم ينجحوا في فرض المشروع السياسي الأميركي في بلاد الرافدين. وقبل ذلك لم تقطف الولايات المتحدة وشريكاتها في حرب أفغانستان ثمار جهودها العسكرية في هذا البلد بعد إسقاط نظام «طالبان» وتشتيت قيادات «القاعدة». إلا أن بعض داعمي هذه الإدارة يعتقد بأن انخراطها في المسرحين العراقي والسوري سيمكنها عاجلاً أم آجلاً من إرهاق اللاعبين الآخرين وتحويل الحضور الإيراني خصوصاً مكلفاً وصعباً، على غرار ما حدث في أفغانستان إبان الاحتلال السوفياتي. لكن الوقائع على الأرض لا تشي بذلك، على رغم أن من المبكر الجزم بمآل حرب الحدود وتقاسم الجغرافيا السورية، فالإيرانيون حتى الآن يقيمون على طرفي الحدود العراقية- السورية، على رغم أن واشنطن طلبت من بغداد إبعاد ميليشيات «الحشد الشعبي» عن هذه الحدود وتسليم أمنها إلى القوات الشرعية من حرس حدود وجيش. وجاءت الصواريخ الباليستية الإيرانية على دير الزور لتقول لقاطني قاعدة التنف أن يد الجمهورية الإسلامية طويلة وقادرة على إزعاجهم. كما أن النظام في دمشق يقترب من استعادة درعا والسيطرة على منافذ الحدود في الجبهة الجنوبية مع الأردن. لذلك تبدو الجمهورية الإسلامية في الميزان العسكري هي الأقوى انتشاراً على المسرحين العراقي والسوري. لكنها تبقى دون تفوق الولايات المتحدة وروسيا وقوتهما وترسانتهما. وهذا واضح في المسرح السياسي حيث تترجم الموازين فعلياً، فموسكو مثلاً هي من يقود ويقرر في آستانة، كما في دمشق وإلى حد كبير في جنيف، أضف إلى ذلك أن اتساع خريطة انتشار القوى الإيرانية يفوق حجمها وقدرتها في الإقليم. كما أنها ليست دولة متقدمة تتمتع باقتصاد راسخ وقوي. وهي تواجه مقاومة لا يستهان بها من اليمن إلى سورية. لذلك يستحيل التنبؤ بمسار الصراع.
إلى هذه القوة الإيرانية على الأرض هناك تركيا، التي تشكل تهديداً لمكتسبات الكرد في شمال شرقي سورية، خصوصاً إذا تخلى عنهم الأميركيون مرضاة لهذا الحليف المفترض في «الناتو»، كما هو واضح اليوم من تعهداتهم لها بإطلاعها على لوائح المعدات التي تسلح بها «قوات سورية الديموقراطية»، والتزامهم استعادة هذه المعدات والأسلحة بعد القضاء على «داعش». وعلى رغم ذلك، لا تملك حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان خيارات واسعة. وإذا غامرت بتنفيذ وعيدها للكرد فإنها ستغامر بفتح معركة واسعة متعددة الجبهات تعم كل مناطق انتشار حزب العمال الكردستاني وفروعه في شمال سورية ومناطق سنجار فضلاً عن مناطق ديار بكر ومناطق انتشار الكرد الأخرى. ثم إن إطالة الحرب على الرقة، كما يتضح اليوم، تتيح للاتحاد الديموقراطي الكردي تعميق تعاونه مع الأميركيين وترسيخ حضوره في مناطق انتشاره الواسعة. وهو يتمتع بشبكة علاقات تتيح له خيارات عدة إذا شعر بتخلي إدارة ترامب عنه. يمكنه الرد على خصومه بإحياء تفاهمات مع النظام في دمشق، كما حصل في حلب، حيث ساهم في طرد الفصائل المعارضة. وكما فعل في مناطق وجبهات تخلى فيها عن مواقعه لمصلحة دمشق وحلفائها.
في ضوء هذه الوقائع، لا مجال للحديث عن تسوية في آستانة ولا في جنيف. كان منطق المعارضة و «أصدقائها» في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، هو الرهان على إرغام الرئيس الأسد ونظامه على تقديم تنازلات بعد إضعافه وتقليص مناطق نفوذه. فمن يستطيع اليوم دفع هذا النظام إلى التنازل؟ ألا يكفي ما تحقق له الآلتان العسكريتان لروسيا وإيران؟ ألا يكفي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بات لا يرى «أي بديل شرعي للنظام»، وأن رحيل الأسد لم يعد أولوية بل محاربة «داعش». سيبقى الحل إذاً رهن ميدان الحرب ونتائجها. من هنا لم يعد مآل الأزمة رهن تفاهم بين أميركا وروسيا ينتظره الجميع. بات لكل ناحية في خريطة سورية دينامية خاصة ومعقدة، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالبادية والحدود الشرقية. لم تعد هناك قواعد ثابتة وعامة لإدارة اللعبة.