قبل البحث في كل ما هو مجمّد في زمن الشغور الرئاسي المتمادي الذي اجتاح مجلس النواب ويُهدّد الحكومة، لا بد من التطلّع الى ما يشهده المحيط. فالهدوء على جبهة عرسال مريب وتحريك الجبهة الشمالية يزيد منه، في وقت اشتعلت الجبهات السورية من دمشق الى شمال البلاد، فما هو مصير المنطقة الآمنة شمالاً وما هو دور الرئيس بشار الأسد؟
تتقاطع التقارير الإستخبارية والأمنية حول سرّ الهدوء على الجبهة الشرقية من عرسال الى رأس بعلبك، وتتّسع المخاوف ممّا يُخطّط لنقل المعركة الى الجبهة الشمالية الممتدة على طول النهر الكبير الجنوبي تزامناً مع اتفاقات أُبرمت برعاية تركية – إيرانية لتجميد الوضع في الزبداني، في وقت اشتعلت فيه محاور العاصمة دمشق وتوسعت رقعة الاشتباكات في الشمال السوري على طول الحدود السورية – التركية واستهدفت مدينة اللاذقية الساحلية بقصف عشوائي أسقط ما كان يُسمّى الخطوط الحمر التي تحمي الشريط الساحلي بعدما كان منطقة يقال إنّها مضمونة برعاية روسية بفِعل وجود قواعدها البحرية في ميناء المدينة وقاعدة طرطوس المجاورة لها.
وإن ظهر جلياً أنّ لبنان سيبقى خارج دائرة التوتر في المنطقة، فإنّ خلافاً كبيراً إستجدَّ حول وجود خطوط حمر في الحرب السورية كتلك التي كانت تُزنّر الساحل السوري مثلاً أو تلك التي كانت قائمة في محاور أخرى، ومردّه الى التبدّل التركي في التعاطي مع الأزمة السورية. فبعد عشرة أشهر على إعلان حلف جدة ضد «داعش» (11 ايلول 2014) تَريَّث الأتراك في المشاركة في الحرب مباشرة، وأقفلوا قاعدة «انجرليك» الأميركية في وجه قوات الحلف طيلة هذه الفترة.
عند هذا الحد كان كل شيء يجري وتركيا تتفرّج إلى أن أُبرِم اتفاق بين أنقرة وواشنطن في السابع من تموز الماضي سمَح باستخدام هذه القاعدة في «حرب شاملة» كما سَمّتها أنقرة، تقرَّر أن يخوضها الأميركيون والأتراك مباشرة في مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني و«داعش» إثر عمليات تبنّاها التنظيم الإسلامي على اراض تركية، ما أدّى الى تغييرات استراتيجية كبيرة في طبيعة المعارك وشكلها، وفتَح الحديث عن منطقة آمنة ما زال الحديث عنها موضع خلاف تركي – أميركي ظهر جلياً من خلال إصرار تركيا على كشف مضمون هذا الإتفاق مع واشنطن، وهو ما تنكّرت له الإدارة الأميركية.
يعتقد الأميركيون أنّ مثل هذا الإتفاق على «منطقة عازلة» مستحيل وما زالوا يصرّون في العلن على أنّ إعلانها له مقوّماته في القانون الدولي، وهي غير متوافرة اليوم بلا غطاء من مجلس الأمن الدولي. لذلك يصرّون على تكوين منطقة سمّوها «خالية من داعش» لتتّسِع للقوات التي تدرّبها الولايات المتحدة الأميركية، والتي بدأت طلائعها تصِل الى شمال سوريا بغطاء اميركي جوّي بعدما خطف مسلّحو «النصرة» وتنظيمات إسلامية أخرى طلائعها التي وصلت تحت اسم «مقاتلي سوريا الجديدة».
لكنّ الأتراك الذين يصرّون على مضمون الإتفاق مع اميركا، كشفوا تفاصيل إضافية وقالوا انها «منطقة آمنة» ستحرسها دوريات لمقاتلين من «الجيش السورى الحر»، وستسمح للقوات الأميركية والتركية بضرب «داعش» أو المتشددين الأكراد إذا دخلوا إليها».
وزادوا أنها «منطقة ستقوم في وقت غير بعيد»، وأنّ عاصمتها ستكون مدينة أعزاز الحدودية التي ستنتقل إليها الحكومة السورية الموقتة التي أنشأها الائتلاف السوري لتكون مسؤولة عن إدارتها.
يتوقف المراقبون الديبلوماسيون عند النظرتين الأميركية والتركية، فلا يرون فروقات في تفسيرهما. المهم، تقول المعلومات إنّ منطقة عازلة تُرسَم بعمق يمتد من 40 الى 45 كيلومتراً على الحدود السورية – التركية. ومهما كان إسمها، فإنّ الأهم يكمن في الدور الذي سيعطى للنظام السوري فيها.
تقول المعلومات الواردة من واشنطن إنها ستتجاوز بعضاً من نقاط الخلاف مع أنقرة. وهي إن لم تشارك القيادة التركية نظرتها الى شكل المنطقة ومن سيحكمها، فإنها تُشدّد على إقفال كل المعابر الحدودية مع تركيا لمنع وصول المقاتلين المتشددين الى سوريا في الدرجة الأولى لتعزيز الحصار على اكثر من 27 الف مقاتل لـ»داعش» حسب إحصاءاتها، وهو أمر لن تتردّد واشنطن في تنفيذه بتشدّد ودقة لا سابق لهما.
لكن، وفي خلافها الآخر مع الأتراك حول دور الرئيس السوري بشار الأسد وجيشه في هذه المواجهة، تُصرّ واشنطن على عدم إسقاطه الآن وتواجه الحلف التركي – السعودي – القطري بتحديد دور جديد له محصور بأن يؤدي دور «المحاصر» لـ»داعش» وسَداً منيعاً من جهة الجنوب.
وهي تراقب بدقة تصرّفات الجيش السوري لمعرفة ما إذا كان له دور في إنعاشها مرة أخرى بعدما اتّهمته بأدوار مماثلة أثناء انفلاشها في سوريا بعد العراق.