وجّه الدكتور فيليب سالم اخيراً رسالة إلى الكونغرس الأميركي يدعوه فيها إلى مساعدة لبنان وإنقاذه من الإنهيار والتفكّك، وهذا نصّها بالعربية.
مرَّت 100عام منذ أن أعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو عن قيام دولة لبنان الكبير في أيلول (سبتمبر) 1920. ومع ذلك، لم يستطع الشعب اللبناني الإحتفال بالذكرى المئوية لهذه المناسبة، لأنّه ما زال يتعافى من الإنفجار الذي ضرب مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) الذي يُعَدُّ من بين أكبر الإنفجارات في العالم، إلى جانب تلك التي وقعت في القرن الفائت كهيروشيما وناكازاكي وتشرنوبيل.
عانى الشعبُ اللبناني بشكل مؤلم من أهوال الحرب والتفجيرات والكوارث الأخرى، ولكن أكثر من أي واحدة أخرى، كانت هذه الكارثة مُدَمّرة، لأنّه كان من السهل تجنّبها. لقد تمّ تخزين 2750 طناً من نيترات الأمونيوم، التي انفجرت في مرفأ بيروت، منذ العام 2014. كان كل مسؤول حكومي تقريباً، بمَن فيهم رئيس الجمهورية، على علمٍ بالخطر المُحتَمَل، لكنهم جميعاً اختاروا الصمت. خافوا كلّهم من غضب صاحب الشحنة. لكن مَن كان هذا؟ مَن كان بإمكانه تخزين مثل هذه الكمية الهائلة من المتفجرات في مرفأ بيروت لمدة 6 سنوات بينما ظلّ مجهولاً طوال ذلك الوقت؟
سواء كان الإنفجار نتيجةَ إهمال أم عن عمد، فهو بلا شك جريمة بحق الشعب اللبناني وجريمة ضدّ الإنسانية. لقد دفعت هذه الكارثة شعب لبنان إلى اليأس لأنّها كانت تتويجاً لـ62 عاماً من الحروب والصراعات والدمار، في أرضٍ كان يُشار إليها سابقاً بـ«سويسرا الشرق».
تمّ تقليص دولة لبنان الكبير إلى دولةٍ صغيرة ضمن الدولة الأكبر لميليشيا «حزب الله» المدعومة من إيران. ولكن، لم يكن «حزب الله» السبب الوحيد لهذا التراجع. كان الفساد الهائل والحكم السيئ وعدم الكفاءة وعدم الولاء للبنان من الأمور المساهمة الرئيسة الأخرى.
لبنان الآن مُفلسٌ مالياً ومُدمَّرٌ اقتصادياً ومحَطَّمٌ مادياً. والأخطر من ذلك، أنه يقع في بؤرة الحرب الباردة بين إيران من جهة والمملكة العربية السعودية والغرب من جهة أخرى. مع لبنان الآن على شفا التفكّك، هل يستحق حتى الإنقاذ؟ في رأيي، نعم وبالتأكيد.
قد يكون بلداً صغيراً، لكن مكانة لبنان في التاريخ وأهميته الثقافية هائلة. كان النموذج السياسي فاشلاً لكن النموذج الثقافي نموذجي. عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في أيار (مايو) 1997، أعلن أنّ «لبنان أكثر من بلد، إنه رسالة إلى العالم». ما هي هذه الرسالة وما مغزاها؟ إنّها رسالة للتعايش بين الأديان المختلفة، حيث يحكم المسيحيون والمسلمون البلاد معاً ويعيشون معاً في سلام.
لبنان موطنٌ لـ 19 طائفة دينية، وعلى الرغم من 62 عاماً من الصراع المُتقَطّع، لا تزال تعيش معاً في وئام. في أرضٍ يتقاسم فضاء عاصمتها صليب كاتدرائية القديس جاورجيوس وهلال مسجد الأمين، لم تكن الحروب في لبنان دينية أبداً. كانت من صنع السياسيين. لقد تمّ استخدام الدين باستمرار وبخبث كأداةٍ سياسية لتحقيقِ أهدافٍ سياسية.
لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط حيث ليس للدولة دِينٌ رسمي (اليهودية في إسرائيل والإسلام في جميع دول الشرق الأوسط الأخرى). لكن «الرسالة إلى العالم» هي أيضاً رسالة عن تعايش الثقافات. في هذه القطعة الصغيرة من الأرض – الأصغر من ولاية كونِكتيكت والمُحاصَرة بين إسرائيل وسوريا والبحر الأبيض المتوسط – يعتنق العرب الحضارة الغربية، حيث تختلط الثقافات العربية والأميركية والأوروبية والآسيوية. وعلى عكس أطروحة صموئيل هنتنغتون «صراع الحضارات»، فإنّها تزدهر من دون صراع.
ربما أكثر من أيِّ بلد آخر، فإنّ ثقافة اللبنانيين هي مزيج من جميع ثقافات العالم. طالبٌ في لبنان، على سبيل المثال، لديه خيار الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، أو الجامعة اللبنانية الأميركية، أو جامعة القديس يوسف التي أسستها الرهبنة اليسوعية، أو جامعة بيروت العربية أو الجامعة اللبنانية. أدّى هذا التكامل بين الثقافات حتماً إلى اعتناق اللبنانيين مبدأ التسامح. لقد تعلّموا احترام «الآخر» – أولئك الذين لديهم آراء مختلفة، وإيديولوجيات مختلفة، ورؤى مختلفة. لقد صقلوا أيضاً مهارة العمل مع الآخرين. هذا هو أحد الأسباب الذي جعل المغتربين اللبنانيين يُشكّلون قصة نجاح.
في قلبِ التركيبة اللبنانية يسكن العشق العاطفي للحرّية. والحرّية شرطٌ لا غنى عنه للبنان. بدونها يفقد لبنان معناه. الحرّية تكمن في جوهر هويته. إنّه أكثر من نموذج للتعايش الديني والتعددية الثقافية والتسامح والحرّية لبقية العالم، فهو الأكثر أهمية نموذجاً ورسالة إلى محيطه، بلدان الشرق الأوسط. في هذا النموذج يكمن مستقبل البشرية، لأنّ التحدّي الأبرز للقرن الحادي والعشرين هو كيف يُمكن للناس من مختلف الألوان والأديان والثقافات أن يعيشوا في سلام، ويعملوا معاً لتحقيق أهدافٍ نبيلة.
لبنان هو أيضاً نموذجٌ ضد التطرّف والإرهاب اللذين عصفا بالشرق الأوسط. إذا كنا في الغرب مُهتَمّين حقاً بمحاربة التطرّف والإرهاب، فعلينا أن ننظرَ إلى لبنان بحثاً عن حلول. وإذا كنا في الغرب مُهتمّين حقاً بتعزيز الحرّية في الشرق الأوسط، فعلينا أن ننظرَ إلى لبنان. كنموذجٍ للإعتدال والحرّية والإستقرار والسلام، يستحق لبنان دعمنا الكامل. إنّه يستحق الإنقاذ والبعث والقيامة، وعلى الغرب أن يُساعده. إنّ لبنان موجود في الشرق الأوسط مادياً فقط، ولكن قلبه في الغرب. فكيف يُمكن للغرب أن يُنقِذَ لبنان؟
إغتنم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه المناسبة. زار لبنان مرتين منذ الإنفجار لاستكشاف كيف يُمكن لفرنسا أن تساعد. إنه يُنسّق جهوده مع الإدارة الأميركية. ومع ذلك، سوف يستغرق إنقاذ هذا البلد أكثر من ذلك بكثير. أُوصي بعقد مؤتمر دولي حول لبنان في باريس بدعمٍ كامل من الحكومتين الأميركية والأوروبية لتحقيق الأهداف التالية:
1. صياغة «خطة مارشال» لإعادة بناء المباني والبنية التحتية المُدَمَّرة وإنعاش الاقتصاد. لم يؤدِّ الإنفجار إلى مقتل 190 شخصاً وإصابة أكثر من 6,000 شخص فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تشريد 300,000 شخص وتسبّب في أضرارٍ تصل إلى 15 مليار دولار.
2. وَضعُ إطارٍ سياسي وأمني دولي لفرضِ الإستقرار والسلام وقيادة لبنان في جهود إعادة البناء في العقد المقبل. وهذا من شأنه أن يسمح للبلد، حرفياً، أن ينهض من تحت الأنقاض، بينما يُعيد الشعب اللبناني بناء بلده برؤية مُتجَدّدة. يُمكن أن تُشرف الأمم المتحدة على هذا الجهد.
3. السعي إلى ضمان حياد لبنان من خلال مجلس الأمن الدولي. إنّ الحياد أمرٌ محوري لبقائه، حيث كان الشعب اللبناني في كثير من الأحيان ضحية صراعات الآخرين والأنظمة السياسية المُعادية، التي سعت إلى السيطرة على مصيره.
لبنان في حالةٍ حرجة. يحتاج إلى مساعدة – الكثير من المساعدة. لا ينبغي للغرب أن يُديرَ ظهره وأن يتركه يذبل وينهار ويموت. من مصلحته إعادة لبنان إلى الحياة. كما أنّه من مصلحة جميع دول الشرق الأوسط النظر إلى لبنان كمنارةٍ للتسامح والحرّية جديرة بالثناء.