لم يكن السفير البريطاني في واشنطن، سيركيم داروتش، مخطئاً في وصفه الواقع السياسي للادارة الاميركية في برقيته السرية التي انفضح أمرها وكلّفت الاميركي دونالد ترامب غير مؤهل ولا يحظى بالكفاءة المطلوبة واضعاً الصراعات داخل أروقة القرار في واشنطن أشبه بالقتال بالسكاكين.
لا تبدو لندن ومعها مختلف العواصم الاوروبية بعيدة عن هذه القناعة. فالفوضى التي لازمت السياسة الخارجية الاميركية منذ دخول ترامب البيت الابيض بلغت ذروتها مع تطور الصراع الاميركي – الايراني وبلوغ مراحل خطرة.
وكان واضحاً أنّ ترامب عندما أعلن ذروة العقوبات الموجعة على ايران بداية شهر ايار الماضي، لم يكن قد وضع خطة بديلة في حال عدم خضوع إيران للضغوط الاميركية. كان واثقاً من انّ ايران ستذهب رغماً عنها ولن تجرؤ على المواجهة. وعندما حصل ما حصل ساد الارتباك وعمّت الفوضى.
وفي ظل وقوع طرفي الصراع أسيرَي مواقفهما وعدم قدرة اي منهما على التراجع او تقديم تنازلات، ظهرت حركتان سياسيتان في وقت لم تجد واشنطن سوى الاندفاع في الحرب بالوكالة، والتلويح بتشديد الخناق، ولاسيما في سوريا ولبنان.
الحركة السياسية الاولى ظهرت مع الدور الفرنسي بإرسال الرئيس الفرنسي أقرب مستشاريه السفير ايمانويل بوت الى طهران. وخلال الاسابيع الماضية ضغطت طهران على اوروبا لتدفع بها للتمايز او ربما التمرّد على الادارة الاميركية. فمصالح أوروبا كبيرة في ايران، كما انها عملت جاهدة على رفض الخروج بالكامل منها لئلّا تُخلي ساحة الاستثمارات الاقتصادية كاملة لواشنطن عندما يحين موعد التسوية مع ايران. فالقناعة الدولية هي انّ هذه التسوية ستحصل عاجلاً ام آجلاً، لكن السؤال: متى سيحصل ذلك؟
ذهب ايمانويل بون الى طهران «بمسعى مدروس»، كما نقل عن ديبلوماسي فرنسي. وقبل رحلته المثيرة مهّدت باريس جيداً لهذه الخطوة، فألمانيا التي لا تزال موجودة في ايران ساهمت في التمهيد وكذلك الصين.
إيران في المقابل أوحَت للجميع انها ليست راغبة في الاندفاع الى الامام اكثر، لكنها مضطرّة، بدليل أنّ رفع مستوى التخصيب الذي اتخذته قالت إنه قابل للعودة عنه بما يعني أنها ترفع السقف للتفاوض، وليس للتقاتل. لكنها تتمسّك بالعودة الى ما قبل قرارات ايار، وهي النقطة التي يحمل المبعوث الفرنسي حولها أفكاراً جديدة. باختصار، فإنّ الرئيس الفرنسي يريد اعادة كل الاطراف الى طاولة الحوار. امّا الحركة السياسية الثانية فجاءت مع زيارة امير قطر لواشنطن، فهو حمل هدية ثمينة لترامب، كناية عن الاقتراب من التوصّل الى تفاهم كامل مع حركة «طالبان» حول الوضع في افغانستان ما سيسمح للجيش الاميركي بالانسحاب، وبالتالي منح ورقة ثمينة لترامب في حملته الانتخابية بأنه حقّق وعده بإعادة الجنود الاميركيين الى البلاد. هذه «الهدية» من المفترض ان تهدئ قليلاً توتر ترامب وهاجسه حيال اخفاقاته الخارجية. لكن هنالك دوراً اضافياً يمكن لقطر أن تؤديه حيال الازمة الاميركية – الايرانية، ذلك أنّ لقطر حصة كبيرة من حقل غاز ضخم مشترك بينها وبين ايران. إلّا انّ طهران تأخّرت في إجراء استثمارات فيه بسبب العقوبات الاميركية، كما انّ قطر تشكل إحدى المنافذ التي تسمح لإيران بالتنفس في ظل العقوبات.
وفي خط موازٍ تندفع واشنطن في حربها بالوكالة مع طهران، ففي مقابل القلق بسبب اتخاذ الحوثيين وضعية هجومية ستؤدي الى اسابيع ملتهبة تطال الاراضي السعودية، تعمل واشنطن على الضغط بقوة على المصالح الايرانية في سوريا. وفي اجتماع القدس الذي ضَم رؤساء أجهزة الامن القومي الاميركية والروسية والاسرائيلية، تردّد أنّ ثمة تفاهمات حصلت حيال الضغط على ايران لإخراجها من سوريا. ومع احتجاز بريطانيا ناقلة النفط الايرانية في عملية نسّقتها مع السلطات الاميركية، طُرح السؤال عن هذا التدبير الأول من نوعه كون الحمولة كانت متوجّهة الى سوريا. في السابق لم يسجّل أي حادث من هذا النوع رغم معرفة الجميع بكيفية إمداد ايران لسوريا بالمحروقات. وقيل انّ الهدف من العملية إفهام دمشق أنّ اعتمادها على ايران لتأمين حاجاتها صار محفوفاً بالمخاطر، وان لا سبيل لها سوى بالاعتماد على روسيا. وقد تكون هذه الخطوة إحدى تفاهمات قمة القدس، فروسيا تتحّضر لعملية عسكرية تستعيد من خلالها بعض النفوذ الذي فقدته أخيراً بسبب هجمات التنظيمات المسلحة انطلاقاً من ادلب. مع الاشارة الى انّ روسيا زادت من حضورها شرق سوريا وفي دير الزور تحديداً، وهي كانت رفضت بيع ايران منظومة الدفاع الصاروخي الجوي S-400، كما انها تترك الهجمات الجوية الاسرائيلية والتي تطال الشمال السوري أحياناً من دون ردعها.
وفي هذا التوقيت أعلن الرئيس السوري تغييرات طالت رؤساء الاجهزة الامنية في سوريا، وسط تنافس روسي – إيراني على استمالة المفاصل الاساسية داخل النظام.
والرئيس الاسد الذي قصد بحركة تعييناته إرسال اشارة واضحة بأنه هو من يملك السيطرة الكاملة على مفاصل نظامه، أظهَر تنوعاً مقصوداً للتوزيع الطائفي للقادة الجدد بين سنّة وعلويين وشركسيين ووضع رموز الحرب جانباً، وهي اشارة مفيدة للعواصم العالمية.
تبقى الاشارة الى الضغط الاميركي على «حزب الله» في لبنان، فبعد إعلان قرب صدور قرارات المحكمة الدولية بدءاً من الخريف المقبل، مع توجيه الاتهام الى أفراد من «حزب الله»، جاءت العقوبات لأول مرة في حقّ نائبين من الحزب، اضافة الى مسؤول من طراز رفيع هو وفيق صفا.
في البيان الاميركي، الذي جاء بعد قرار العقوبات، توضيح لخلفيات الخطوة عبر اتهام «حزب الله» باستغلال النظام السياسي والمالي اللبناني لصالح «حزب الله» وايران. بما يعني انّ الخطوة التي تعتبر معنوية اكثر منها عملية لأنّ المسؤولين الثلاثة لا علاقة لهم بالنظام المالي العام، إنما تهدف الى ردع النفوذ الكبير الذي حَظي به الحزب بعد الانتخابات النيابية الاخيرة. لكنها خطوة ضغط معنوية، ما يعني انّ واشنطن ترفع مستوى ضغطها في لبنان وفق مسار حَذر ومدروس ووفق درجة واحدة لا أكثر. فهدفها ان تحاكي ايران مع تمسّكها بالاستقرار الداخلي اللبناني.
وفي تأكيده على ذلك، ووفق المعلومات فإنّ الديبلوماسية الاميركية اهتَمّت برَصد ردود الفعل، خصوصاً بعد الاعلان عن قرب صدور أحكام المحكمة الدولية، وسَعت لسماع التوقعات من شخصيات لبنانية معنية ومن مختلف الاتجاهات حيال ردود الفعل التي يمكن ان تحصل، وما اذا كانت ستصل الى مستوى قوي او انها ستبقى في الاطار الاعلامي.
هو المناخ الجديد الذي استفاد منه وليد جنبلاط وسمح بإعادة تلميع دوره واحتضانه، وهو ما قد يسمعه وزير الخارجية جبران باسيل خلال زيارته لواشنطن الاسبوع المقبل لحضور المؤتمر السنوي للحريات الدينية حيث طلب موعداً للقاء وزير الخارجية مايك بومبيو على هامش أعمال المؤتمر، مع العلم انّ ذلك لم يحصل العام الفائت بحجّة ضيق وقت بومبيو.