تمثلت كلمة سر «الربيع العربي» بمقولة بسيطة احتاجت إلى طيف واسع من التعبيرات كي تظهرها، وهي صرخة الشعوب للرؤساء أننا لا نستطيع العبور إلى المستقبل، بل حتى الاستمرار على قيد الحياة تحت ظلال سياساتكم، فلا الأدوات التي تستخدمونها ولا الأساليب المتبعة في إدارة السياسات قادرة على إخراجنا من عنق الزجاجة التي رزحنا داخلها طويلاً.
الوثيقة التي وقع عليها 51 دبلوماسياً أميركياً، وتدعو إلى تغيير السياسة الأميركية تجاه المقتلة السورية، كانت عبارة عن صرخة شبيهة بتلك التي انطلقت من بلدان الربيع العربي، ثورة ضد سياسات أوباما التي هشّمت صورة أميركا وأوصلتها إلى درجة متدنية لا تناسب إمكاناتها وواقعها، والأهم أنها تهدد مصالحها المستقبلية وتساهم في تراجع دورها وتأثيرها العالميين، كذلك كان صوت الدبلوماسيين الأميركيين يقول لأوباما إن مستقبل أميركا ليس ملكاً لك.
لقد شكّلت سياسات إدارة أوباما نموذجاً فاشلاً لنمط القيادات السلبية التي تقدّم بلادها للعالم الخارجي بأقل مما هي عليه، أو لا تعرف استثمار عناصر القوة التي تمتلكها بشكّل جيد في إدارة علاقاتها بالبيئة الدولية، فرغم أنّ لدى أميركا ميزانية دفاع تساوي ميزانيات القوى الكبرى التي تليها مجتمعة، ورغم حضورها العسكري والدبلوماسي في كل بقاع العالم، إلا أن حجم تأثيرها تراجع إلى درجات متدنية وغاب في مناطق كثيرة، وفي بعض تلك المناطق كانت أميركا استثمرت لعقود طويلة جهوداً سياسية وعسكرية كبيرة ولديها بنى تحتية وبيئة لوجستية متكاملة، كالبحر المتوسط، ورغم ذلك استطاعت السفن الروسية التموضع في مياهه وعلى شواطئه.
وعلى مدار الفترة التي مكث فيها أوباما في البيت الأبيض، تحوّلت القوة الأميركية إلى تقاعد مبكر وصارت مجرد تراكم تسليحي لا يشكل أي إضافة لقدرات دبلوماسية جون كيري المفرغة من كل قوة، وباكراً تحول أوباما إلى داعية سلام دولي، ربما بفعل تأثير حصوله على جائزة نوبل للسلام، في وقت كانت شياطين العالم كلها تظهر على السطح، من بحر الصين إلى الشرق الأوسط، تريد تغيير العالم بالقوة، في حين حاول أوباما تكييف العالم وفقاً لفلسفته في العلاقات الدولية القائمة على اعتبار أن تخفيض الانتشار الأميركي في العالم هو سر الحفاظ على القوة الأميركية لأنه يقلل من حالة النزف التي تتعرض لها عسكرياً ومالياً، ويغير من صورة أميركا التي حوّلها الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى قوة شريرة في نظر العالم.
غير أن تلك السياسات لم تكن أكثر من تحديث خاطئ للانحرافات التي أسسها بوش نفسه، ذلك أن الخطأ الذي ارتكبه بوش كان في تحييد القوة الناعمة الأميركية وعدم دمجها بالقوة الصلبة لإثبات فاعلية أميركا، بالإضافة إلى بنائه الحسابات الخاطئة بناءً على هذا الانحراف، الذي كان من نتيجته عدم القدرة على إعادة هيكلة السياسة والسلطة في العراق وأفغانستان، أو هيكلتها بطريقة فوضوية سمحت بتوطين الانحرافات في كل مفاصل السياسة والاجتماع في تلك البلدان، ولم تكن سياسة أوباما الانسحابية سوى استكمال لتلك السياسات الخاطئة وتشريعها بوصفها الحلول الممكنة في بلاد لا تسمح لها بنيتها الطائفية والقبلية بأكثر من ذلك.
تذرع أوباما دائماً بما يعتبره ظروفاً موضوعية حاكمة لا يمكن تجاوزها، فأميركا وفق اعتباره لا يمكنها أن تحل نزاعاً عمره مئات السنين بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط، كما لا يمكنها أن تنصر ثورة أطباء أسنان وصيادلة ومدرسين في سورية ضد نظام تدعمه قوى إقليمية ودولية، بذلك أوجد الظرف المناسب لتعطيل مكائن القوة الأميركية بإلغائه محفزات استعمالها وتحويلها إلى قوة ساكنة معطّلة.
لماذا اختار الدبلوماسيون الأميركيون الموضوع السوري لانتقاد سياسة أوباما؟ لأن سورية هي التي كشفت عطب سياسة أوباما وخطأها الكبير. لم يكن ثمة منطق أخلاقي يشفع لها ولا مبرر سياسي أو عسكري. كانت أقرب إلى الفضيحة، جلست على شرفة الأحداث تتفرج على مسارات النكبة وتراقب أهوالها، واكتفت بالقول إن الأسد رئيس غير شرعي لكنها كل مرّة كانت تردد لازمة أن الولايات المتحدة غير معنية بالتدخل، في الوقت الذي كان المؤسسات الأميركية بمعظمها تظهر انزعاجاً ملموساً من طريقة التعاطي مع الأزمة، ونبهت غالبية التقديرات الأمنية التي أصدرتها أجهزة الاستخبارات، إلى المخاطر التي سيخلفها الموقف السلبي لإدارة أوباما على الأمن الإقليمي والعالمي، لكن تلك الإدارة تعمّدت الالتفاف على هذه التحذيرات بالارتكاز على تقديرات قريبة من وجهة نظرها لتبرير موقفها، وكان همّ أوباما صناعة تيار يمجّد موقفه من سورية ويوضح حجم المكاسب التي جناها لأميركا وكم وفر عليها من مصاعب وتكاليف.
من نافلة القول أن الدبلوماسية الأميركية تثور اليوم في وجه إدارة أوباما ليس كرمى لسواد عيون الشعب السوري المنكوب، بمقدار ما تفعل لكرامة أميركا التي وصل حد انحطاطها درجة جعلت فلاديمير بوتين يتعامل مع جون كيري، رأس الدبلوماسية الأميركية، بخفّة واستهزاء، وبعد اكتشافها أن سياسة أوباما لا تصلح للحفاظ على هيبة أميركا ولا لتكريس قوتها مستقبلاً.
* كاتب سوري