ما يجري في الولايات المتحدة محزن بل مبكٍ في دولة عرفت الديموقراطية منذ قرون ومارستها بجدارة ووعي بالرغم من كل الصعوبات. جمعت بين الحريات والقوة في الاقتصاد والعسكر والعلوم وغيرها. سنعود فقط الى الماضي القريب ونتذكر كيف «أل غور» اعترف بالخسارة امام جورج بوش في وقت كان من الممكن للفرز أن يحمله الى البيت الأبيض. قال وقتها أنه خسر أو عمليا ينسحب لأن أميركا أهم بكثير ممن يربح أو يخسر. عندما أعطت الاحصائيات فوز ترامب منذ 4 سنوات، اعترفت كلينتون في نفس اليوم بالخسارة الأولية وأعادت رسميا اعترافها في اليوم التالي أمام الشعب والمؤسسات والعالم. من تابع وعاش في الولايات المتحدة لا يمكنه الا أن يحزن على ما آلت اليه الأمور ليس بسبب السياسات الداخلية والخارجية بل خاصة بسبب ما آلت اليه القطاعات الاقتصادية والاجتماعية كما في كل العلوم والأداب.
الدولار قوي في الأسواق النقدية العالمية. الدولار قوي منذ زمن بعيد ولا نقصد هنا قيمة سعر الصرف مرتفعة أو منخفضة، بل نقصد أن النقد الأميركي جاذب للمواطن والشركة منذ عقود أقله منذ الحرب العالمية الثانية واتفاقية «بروتون وودز». الدولار جاذب منذ ذلك الحين للافراد والشركات في الداخل الأميركي وخارجه. اعتقد العالم أن اليورو الذي أسس في سنة 1999 سيكون المنافس الأساسي الكبير بل البديل للدولار، لكن هذا لم يتحقق بسبب الأوضاع في أوروبا وغياب السياسات المالية المشتركة الفاضلة ضمن الوحدة الأوروبية. هنالك من يعتقد أن «اليوان» سيكون البديل، لكن الصين ليست مؤهلة اليوم للمنافسة لأسباب قانونية وتشريعية ومالية للمنافسة الجدية ضد الدولار.
ما هي أسباب قوة الدولار عبر الزمن والتاريخ؟ لا شك أن مرونة العملية السياسية أي الانتقال الهادئ في السلطة أو السلطات بين الخاسر والفائز أو بين الذي انتهت ولايته والقادم الى السلطة هو سبب مهم مطمئن. قوة الدولار من قوة المؤسسات الأميركية الفاعلة بسهولة والمتمتعة في نفس الوقت بالحيوية التي لا مثيل لها. قوة الدولار تنبع من رغبة المستثمرين العالميين في شراء العقارات والأصول والأسهم وسندات الخزينة الأميركية وغيرها والتي توحي جميعها الثقة في كل الأوقات والظروف. ما زالت هذه الأصول هي المفضلة عالميا مقارنة بجميع الدول بما فيها دول أوروبا والصين واليابان.
ما يدعو للعجب انه بعد أزمة 2008 أي «الركود الكبير» اعتقد العالم أجمع أن الدولار سينهار ولم يحصل ذلك لأن المؤسسات بقيت قوية وتوحي بالثقة. بعد الأزمة ارتفع سعر صرف الدولار لأن الطلب عليه بقي قويا وتدفقت رؤوس الأموال الى الولايات المتحدة بل لم تخرج منها كما كان متوقعا. هنالك دول مهمة كاليابان ولمنع عملتها من الصعود في الأسواق لسبب التصدير اشترت دولارات وباعت الين مما سبب ارتفاعا في سعر الدولار عالميا. بعض الدول الأخرى في أوروبا وخارجها فعلت الشيء نفسه أي اشترت الدولار لمنع ارتفاع عملاتها وضرب صادراتها. في الأزمات تبين للعالم أجمع، أن المستثمرين يلجأون الى الأصول الآمنة وهذا هو دور الدولار والأصول المحررة به.
تعاني الولايات المتحدة من عجز كبير في ميزان الحساب الجاري مما يعني انها تحتاج للاقتراض من الخارج لتمويل استهلاكها واستثماراتها. نظريا، اذا لم تخفض الولايات المتحدة هذا العجز، لا بد للدولار من أن ينهار في الأسواق وهذا ما لم يحصل لغياب المنافسة الجدية له. الأزمة الأوروبية كبيرة ولا حلول قريبة لها مع البريكسيت وقبله. تعاني اليابان من مشكلة ديموغرافية جدية لا تريد حلها عبر استيراد العمالة. أما الصين فما زالت غير راغبة بل غير جاهزة للمنافسة. الدولار يبقى النقد الآمن بالرغم من كل شيء.
في المؤشرات الأخرى أي نسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي، نرى انها تغيرت من 52% في سنة 1960 الى 35% في 1980 الى 56% في سنة 2000 والى 128% اليوم. يبلغ عجز الميزان التجاري 855 مليار دولار. أما نمو الاقتصاد الأميركي فهو سلبي لهذه السنة أي انخفاض 8% تبعا لصندوق النقد الدولي. نتائج الكورونا على الشعب تدعو للحزن والأسى لعدد الاصابات والأموات التي سببتها. كل ما سبق يشير الى تعثر الدولار وانهياره، لكن مجددا لم يحصل هذا حتى الآن.
الثقة بالدولار لا تعود فقط الى العوامل النقدية والمالية والاقتصادية. تعود الثقة خاصة الى المؤسسات والقوانين التي تقوم عليها الولايات المتحدة، وهذا ما يمكن أن يدمره ترامب بتصرفاته الحالية خلال الأسابيع القادمة وبعدها. عدم اعترافه بالخسارة بالرغم من كل النتائج ولغياب التزوير كما اشارت اليه ادارته نفسها سيضعف الثقة بالاقتصاد الأميركي ويسبب انهيارا للدولار كما لم يحصل سابقا. يتكلم الأميركيون دائما عن حكم القانون الذي هو فوق الانسان حتى فوق رئيس الدولة. يتكلمون عن الحريات والقدرة على النجاح في الأسواق كما القدرة على الاندماج السريع في المجتمع. لأول مرة هنالك خطر وربما البعض يسميه فرصة لسقوط الدولار عن عرش النقد العالمي للأسباب الأربعة مجتمعة:
أولا: الشلل السياسي الحاصل الذي لن ينتهي حتى بعد اعتراف ترامب بالخسارة. كما أن سوء معالجة وباء الكورونا سيبقى في ذاكرة العالم والأميركيين لعقود قادمة.
ثانيا: الانقسام السياسي الخطير على الأمور المهمة وليس على التفاصيل كما كان يحصل سابقا. تنقسم الولايات المتحدة عموديا مع ترامب وضده والأفكار المتداولة من مؤامرات على أميركا هي جديدة وتعيد الى الواجهة الشعور العنصري والجنسي والمناطقي ومنابع الأصول البشرية وكلها في غاية الخطورة وتنذر بالأسوأ. كيف يمكن للولايات المتحدة أن تشجع الدول النامية والناشئة على الديموقراطية وتبادل السلطات والمراكز عندما لا تمارسها هي بنفسها.
ثالثا: الأوضاع الأميركية الحالية تعطي فرصا كبيرة للمنافسات النائمة التي ستتأهل جديا لمحاربة الدولار.
رابعا: السياسات التي مورست في السنوات الأربعة الماضية ضربت الولايات المتحدة كنموذج عالمي للانفتاح والنمو وقبول الآخر. طبعا ليس هنالك اجماع حول هذا الموضوع، انما تكمن المشكلة أحيانا في أن العديد من الخبراء والسياسيين ينتقدون أمور معينة دون دراستها بشكل وعمق كافيان. من المفضل للمرء أن يعيش وضع معين قبل تقييمه.
ماذا تعني عمليا هذه التوقعات للمستثمرين؟ الهروب من الدولار واللجوء الى العملات الأخرى؟ النصيحة الأكيدة هو تنويع النقد والأصول وعدم التركيز على الدولار. العالم متقلب وأي نقد فردي لن يكون آمنا وبالتالي تنويع المحفظة الاستثمارية ضروري.