الجاذبية والابهار معقودة بشكل مزمن لموسم الانتخابات الرئاسية الأميركية. ليس هناك ما يصل الى مستواها ومداها في كل الاستحقاقات ذات الطابع الديموقراطي على الكوكب. تؤشر بحد ذاتها الى صلابة القالب الدستوري للتجربة القومية الأميركية، كتجربة قومية لمجتمع من المهاجرين، المتعددي الأصول والمشارب. لكن صلابة القالب الدستوري لم تخف في الماضي ولا تخف اليوم، تناقضات مجتمعية جدية واحتكاكات مقلقة تحصل في الداخل الأميركي، لا سيما على خلفية «المسألة العرقية» وفظاظة أو عدم فعالية الشرطة. ويضاف الى ذلك الانزياح في هذا الموسم، بعض الشيء، عن السقف المعهود للمبارزة بين «الديموقراطيين» و»الجمهوريين»، مع الظاهرة الشعبوية الهوجاء التي يمثلها رجل الأعمال دونالد ترامب، ناهيك عن تسلل «النغمة التخوينية» الى الخطاب الانتخابي الأميركي. فباراك اوباما يتهم ترامب بالتعاون مع فلاديمير بوتين والروس، في حين لا يتردد ترامب في اتهام هيلاري كلينتون بأنها أميرة تنظيم «داعش»!
يتابع الانتخابات الأميركية مئات الملايين من الناس خارج الولايات المتحدة، القسم الأكبر منهم لم يزرها يوماً، وقسم غير قليل من هؤلاء تتعايش داخله مشاعر متناقضة تجاه التجربة الأميركية. هذا الموسم بالتحديد مجال للتذكير بأن هذه المشاعر المتناقضة تعكس، الى حد ما، التناقضات الأميركية، أو بالأحرى «عدم وجود تناقض» بين كون أعظم قوة امبريالية في العالم هي في نفس الوقت أكثر الديموقراطيات صلابة، وبين كون أكثر الديموقراطيات صلابة تعيش في الوقت نفسه جدية المخاوف التي وجهها «نقاد الديموقراطية كفكرة» منذ قرون، وفي طليعتها الخوف من الغوغائية والشطط.
من بعيد، تفصلك عن هذه الانتخابات بحار ومحيطات، ويقرّبك منها النقل المباشر وكثافة التحليلات المتواصلة، والعناية بدقائق الأمور. تعيش أكثر فأكثر لعبة تلصص وتلفزيون الواقع. ما تقوله زوجة المرشح، وما تقوله ابنة المرشح، وما يقوله المرشحون الخاسرون داخل الحزب العريض لمن وقع عليه اختيار الحزب، ولكيفية تطرق المرشح الى كل موضوع مأخوذ على حدة، وصوته ونبرته ونظرته، وما كان عليه المرشح المختار منذ الصبا. كل تفصيل يجد طريقه للتداول الاحترافي بشأنه بالنسبة للفضائيات المتمرّسة، وهذه الفضائيات تنحاز اما لهذا المرشح واما لذاك دون وجل. الانفاق الانتخابي يبلغ معدلات خيالية مقارنة بالبلدان الديموقراطية الأخرى. الشعارات التي تبدو بسيطة سرعان ما يعود النقاش الفلسفي الأميركي فيتلقفها للمفاصلة بين جداول القيم عند هذا المرشح وعند ذاك.
من بعيد أيضاً، تطورت نظرة الى الاشهر السابقة على لحظة الاحتكام النهائي للصناديق، على انها فترة حرجة، اما يستغلها من يمنّي النفس هنا او هناك على الكوكب بأن أميركا مشغولة بانتخاباتها، واما تستغلها الادارة الاميركية للتعجيل في حسم أو تظهير وقائع معينة، في سياق رفع الحظوظ الانتخابية لطرفها، أو أقله في سياق انها الأشهر المتبقية لرئيس أكمل ولايته الثانية.
ورغم ان الانتخابات الأميركية لا تتمركز حول الشؤون الدولية، فانه استحقاق لانتخاب «رئيس العالم»، رئيس قيصري بامتياز، رئيس سيتشخصن حوله كله «القيل والقال» لشعوب بأسرها لفترة من الزمن.
لكن مسائل الارهاب ورهاب الاسلام والمهاجرين، رفعت من حضور «العالم الخارجي» في الخطاب الانتخابي الأميركي، وراهنية السؤال حول موقع الولايات المتحدة في العالم، بين ترامب الذي يعد جمهوره بأنه سيعيد أميركا قوة عظيمة، وبين هيلاري كلينتون التي ترد عليه بأنه لا يمكن لرجل واحد أن يصلح كل شيء، وبأن أميركا ما زالت أعظم قوة على سطح الأرض.
لا تزال أميركا بالفعل أعظم قوة على سطح الأرض، لكنها لم تعد كحالها يوم كسبت الحرب الباردة. مرت ثماني سنوات من ادارة باراك اوباما من دون حروب تدخل مشابهة لتلك التي شهدناها مع بوش الاب وكلينتون وبوش الابن، باستثناء الحرب الجوية المتثائبة ضد «داعش»، واسهام بنسبة معينة في عملية اسقاط معمر القذافي. انما لا شيء يشبّه بالانزال في باناما والصومال، بعاصفة الصحراء، بحرب كوسوفو، باحتلال افغانستان والعراق. هناك من يرى ان «تجنب التمرّغ» هذا يعطي القوة العظمى راحة تحتاج اليها كي تبقى في الصدارة. وهناك من يرى انها بادرة «تحلّل العصبية». الاستحقاق الرئاسي يجيب جزئياً على هذه الاشكالية. لكن المرشحين، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، رغم موقفهما المتباين في كل شيء، وخصوصاً في تقييم مرحلة اوباما، الا انهما يقدمان، الى حد ما، نوعين مختلفين من «اجتناب العالم». باقفال الباب في وجهه، عند ترامب، وبتغيير بطارية «الروموت كونترول» (جهاز التحكم عن بعد) عند هيلاري. هل يمكن ان تستغني أميركا عن مشهدية «نزول المارينز» منذ «شواطئ طرابلس «الغرب» (معركة درنة مطلع القرن التاسع عشر، كما يأتي في مقدمة نشيد المارينز)؟ الولايات المتحدة هي بمعنى من المعاني «هبة المارينز»، هبة النزول من البحر والجو الى البرّ. ديموقراطيتها لا تنفصل عن امبرياليتها والأخيرة لا تمارس بالروموت كونترول فقط أو بعقيدة «الصفر ضحية». وراء كل رعونة دونالد ترامب ثمة هروب من مواجهة هذه الاشكالية. وراء كل «حكمة» هيلاري كلينتون التي تحذّر من خطر مجيء شخص غير سوي لقيادة العالم والامساك بالزر النووي، هناك رعونة، رعونة التصور مسبقاً بأن كل شيء يمكن ان يسوى مع ايران بالطرق السلمية، وبأن الحل مع «داعش» دعم القوى المحلية لضربه. لم تسمّه، لكن، في اطلالتها يوم قبولها تسمية حزبها، كانت هيلاري كلينتون تبايع «الحشد الشعبي»!!
صحيح، الانتخابات الاميركية لا تقرأ من زاوية عراقية حصراً او سورية حصراً، لكن بالنتيجة في كل زاوية تقرأ فيها نعود للاشكالية: منذ قرنين وأميركا تدفع «ضريبة» متانة نظامها الديموقراطي وصدارة قوتها الامبريالية، من لحم ودم جنودها، وليس من تفوق في «نظام القيم» وحده (سردية كلينتون) أو من خصوبة في انتاج الرجال العظام (ترامب حين يحشر نفسه مع عظماء التاريخ الأميركي في مفارقة كاريكاتورية تذكرك بأن عالمنا ليس على ما يرام).