قبل تبنّي جو بايدن مرشحاً للحزب الديمقراطي إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية، جرى اتصال بينه وبين أحد «أصدقائه» اللبنانيين، يمكن اعتبار مضمونه مؤشراً على نيات الرجل الذي ربما سيصبح رئيساً للكوكب. في عزّ هجمة إدارة ترامب على لبنان، كان المتصل ببايدن يتوقع أن ينتقد الأخير سياسة منافسه، لكنه فاجأه بقول ما معناه إن «على واشنطن أن تفرض عقوبات إضافية على القطاع المصرفي اللبناني، لأنه الرئة التي يتنفس منها النظام السوري»!
كلام بايدن، الذي يصفه ترامب بـ«النعسان»، لا يعكس بطبيعة الحال واقع استفادة سوريا من النظام المصرفي اللبناني، بقدر ما يكشف رؤية الولايات المتحدة، بحزبيها، إلى لبنان. واشنطن لا ترى بيروت إلا من منظار تل أبيب. يمكن أن يختلف الحزبان الأميركيان على كل شيء، ومن ضمنه أسلوب العمل في «الشرق الأوسط»، لكنهما يتنافسان على الحرص على أمن العدو الإسرائيلي ومصالحه. تنافسهما هنا يصبح حالة شبه «مَرَضيّة»، عبر إظهار الخشية على مصالح تل أبيب أكثر من حكام «إسرائيل» أنفسهم. عندما لا يوافق أحدهما على حرب يقترحها صنّاع القرار في الكيان الصهيوني، فإنه يفعل ذلك لأنه لا يضمن نتائج هذه الحرب المقترحة على «أمن إسرائيل». وعندما يفرض ترامب توقيت إعلان التحالف بين الإمارات العربية المتحدة والعدو، لن ينتقد بايدن ذلك، بل سيرحّب به، كما حزبه الديمقراطي. الخلاف هنا يقتصر على «مصلحة إسرائيل» المستقبلية، من جرّاء خيارات كضم الضفة الغربية أو أجزاء منها.
في لبنان، الحزبان متفقان على ضرورة إضعاف حزب الله، لتحقيق ثلاثة أهداف: تعزيز نفوذ الولايات المتحدة في لبنان، حماية أمن إسرائيل، وإضعاف إيران ومحور المقاومة. الخلاف يمكن أن ينشب في واشنطن على آلية تحقيق الأهداف، لا على الأهداف نفسها. من هنا، لا يمكن النظر إلى الانتخابات الأميركية كمحطة ستقلب حتماً المشهد في لبنان، لجهة حجم الضغوط الغربية عليه. ثمة احتمال أن يمضي بايدن، في حال فوزه، لتغيير أسلوب عمل إدارة ترامب، والرهان على حد أدنى من الاستقرار في لبنان، وعلى ما تبقى من مؤسسات، للاستناد إليها مستقبلاً لإضعاف حزب الله. لكن ثمة احتمال آخر، وربما يكون الأرجح، وهو أن ما يقوم به ترامب حالياً – أي الدفع نحو سقوط لبنان كلياً – ليس سوى ما تريده دولة الأمن القومي في واشنطن. مؤشرات كثيرة تدل على ذلك. منذ عام 2017، والولايات المتحدة، بأجهزتها لا إدارتها السياسية وحسب، تتعامل مع ملف تسلّح المقاومة كواحد من أولوياتها. يتحدّث المسؤولون الأميركيون عن هذه القضية كما لو أنها تخصّهم مباشرة، لا بصفتهم «سفراء إسرائيليين» وحسب. وهذه الأجهزة تسبق ترامب في ضغوطها على لبنان، سواء أمنياً أم مصرفياً. لا فرق هنا بين ديفيد هيل، المحسوب على البيروقراطية الدبلوماسية، وديفيد شنكر المحسوب على ترامب، كما لا فرق بين موظفي مجلس الأمن القومي، والعاملين في وكالة الاستخبارات المركزية أو ضباط الجيوش الأميركية. جميعهم، في فريق ترامب، وفي أجهزة «الدولة العميقة»، يتحدّثون اللغة نفسها. صحيح أن الرئيس يفرض لغته على الإدارة، إلا أن الأسلوب المعتمد في الحديث عن لبنان بات شبه موحّد أيضاً بين مختلف «أجنحة» الإدارة، بحسب مسؤولين لبنانيين دائمي التواصل مع واشنطن. بعض الدبلوماسيين الأميركيين الذين يؤكدون أنه لا مصلحة لبلادهم في «انهيار لبنان»، وأن «حزب الله مشكلة يمكن التعايش معها لإضعافها»، بات الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
المشكلة الأولى في هذا الصدد هي في تضخيم الرهان على نتائج الانتخابات. فلا خسارة ترامب محسومة، رغم نتائج استطلاعات الرأي، ولا فوز بايدن سيولّد انقلاباً بين ليلة وضحاها في السياسة الأميركية في الشرق الاوسط. سيحتاج بايدن إلى أشهر، ربما، قبل الالتفات إلى ما يجري في بيروت. وعلى المستوى الإقليمي، سيحاول الاستفادة قدر المستطاع من إجراءات ترامب العقابية ضد إيران وحلفائها، وسيزيد من الضغوط على سوريا، وسيرى في لبنان أرض فرص هيّأها له سلفه لمزيد من الحصاد. لن يقف «النعسان» في حفل تنصيبه ليعلن العودة إلى الاتفاق النووي، ولن يسحب فوراً آلاف المستشارين العاملين في العدوان على اليمن، ولن يُعيد السفارة الأميركية من القدس إلى تل أبيب، ولن يتراجع عن الاعتراف بـ«السيادة الإسرائيلية» على الجولان، ولن يكفّ عن فرض العقوبات على سوريا. من يقرأ احتفاء توماس فريدمان بالاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، سيدرك أن الديمقراطيين ليسوا على يسار الجمهوريين في ما يخص التحالفات في إقليمنا.
قصارى القول إن الرهان على الانتخابات الأميركية لإنقاذ لبنان من الانهيار قد يكون رهاناً خائباً. ربما، قررت «دولة الأمن القومي» أن انهيار لبنان سيضع على كاهل المقاومة عبء ما تجنّبته منذ عقود، على المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية؛ وأن انهيار لبنان لن يشكل خطراً على «أمن إسرائيل»، بدليل أن «انهيار سوريا لم يشكّل خطراً آنياً»، بل خلق «تهديدات على المدى البعيد يمكن التعامل معها حالياً»؛ وأن انهيار لبنان سيُضعف حزب الله ويولّد له من التوترات ما يشغله عن مراكمة المزيد من القوة، كما عن «تهديد أمن إسرائيل»؛ وأن انهيار لبنان سيجعل «أقساماً منه» تقع تماماً تحت نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها! ماذا لو أن هذا الخيار هو ما بدأ العمل عليه في واشنطن، بصرف النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض؟ التحسّب ينبغي أن يكون قائماً وفقاً لهذا الخيار، بدل الرهان على نتيجة صناديق قد يتأخر صدورها، وربما لن تأتي بجديد سوى المزيد من الدفع نحو الانهيار.