لم يحدث يوماً أن ارتبط الشرق الاوسط، وكذلك الساحة اللبنانية، بنتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية كما هو حاصل اليوم. والسبب لا يكمن فقط في مسألة الاختلاف السياسي بين نهجين، بل خصوصاً بسبب المتغيرات الهائلة التي طرأت على ساحة الشرق الاوسط وأدّت الى ظهور 3 محاور إقليمية كبرى تتزعّمها كلّ من تركيا وايران والتحالف الخليجي ـ الاسرائيلي، وانّ المطروح خلال السنوات القليلة المقبلة إعادة رسم خريطة جيوسياسية جديدة لعشرات السنين المقبلة. وخلال الايام الماضية جاءت التطورات الانتخابية كارثية، ليس فقط بالنسبة الى الرئيس الاميركي دونالد ترامب، بل أيضاً بالنسبة الى الحزب الجمهوري المهدّد بفقدان غالبيته في مجلس الشيوخ.
فاستطلاعات الرأي المختلفة منحت تقدماً واسعاً للمرشح الديموقراطي جو بايدن بَدا مذهلاً في بعض الاحيان، والمقصود هنا تحديداً الاستطلاع الذي أجرته شبكة CNN الاميركية حيث وصل الفارق الى نحو 16 نقطة. واذا كانت هذه الشبكة في الاساس معارضة لترامب وخاضَت معه مواجهات شرسة عدّة طوال السنوات الاربع الماضية، إلّا أن مؤسسة «راسموسن» التي تميل الى الجمهوريين وكثيراً ما استشهد بها ترامب، وجدت في آخر استطلاعاتها أنّ بايدن تقَدّم على ترامب بـ 8 نقاط. وللذين يستشهدون بنتائج الاستطلاعات التي كانت قد أعطت هيلاري كلينتون تقدماً منذ 4 سنوات، إلّا ان الفارق قبل اقل من 4 اسابيع لم يتجاوز يومها الـ 4 نقاط، أضف الى ذلك انّ كلينتون حقّقت تفوّقاً على ترامب بأقل من 3 ملايين صوت، ولو انها خسرت في مجموع الناخبين الكبار وفق النظام الانتخابي المعمول به في الولايات المتحدة. ومن يتابع وسائل الاعلام الاميركية يلمس انّ البعض منها بدأ يتعاطى كما لو انّ بايدن سيصبح الرئيس المُقبل للبلاد. ويبدو انّ الاميركيين باتوا يميلون الى قيادة اكثر هدوءاً واهتماماً بالازمات الداخلية بعد السلوك السياسي الصاخب الى حَدّ التهوّر لإدارة ترامب الذي حَطّم كل شيء تقريباً.
وفي استطلاع كان قد أجراه معهد شيكاغو للشؤون الاعلامية، فإنّ أولويات الجمهوريين اختلفت عن أولويات الديموقراطيين. فالجمهوريون مهتمّون بصعود الصين والارهاب الدولي والهجرة غير الشرعية والتطرف الداخلي والطموحات الايرانية، فيما الديموقراطيون لديهم 5 أولويات مختلفة، وهي: كورونا وتغيّر المناخ وعدم المساواة العرقية والتدخّل الاجنبي في الانتخابات الاميركية وعدم المساواة الاقتصادية المحلية.
ووفق هذه الاولويات المختلفة يصطَفّ الناخب الاميركي، وفي حال فوز بايدن، الذي سيكون عندها الرئيس الأكبر سناً في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية، فهذا لا يعني أبداً أنه سيهمل الملفات الخارجية، لا بل على العكس. فالحملات الانتخابية شيء والسلوك السياسي شيء آخر، خصوصاً انّ المعروف عن بايدن اهتمامه بالسياسة الخارجية لبلاده منذ ان سلّم موقع النائب لأول رئيس أسود في تاريخ البلاد. لا بل إنّ الفريق الذي سيعاون بايدن في ملف ايران والمفاوضات معها بدأ يتشكّل، علماً أنّ انطوني بليكن هو أحد أبرز رجالاته على الاطلاق. لكن ثمّة انتقادات لصحّة وصوابية خيارات بايدن في سياسته الخارجية، لدرجة انّ وزير الدفاع السابق خلال فترة باراك أوباما، وهو روبرت غيتس، كان قد قال إنه من المستحيل ألّا يحبّ المرء بايدن، لكنّ بايدن كان مخطئاً في معظم القضايا السياسية الخارجية والامن القومي على مدار العقود الاربعة الماضية. فهو اقترع ضد حرب الخليج الاولى عام 1991، ثم أيّد غزو العراق عام 2003 ليعود ويصبح لاحقاً في صف منتقدي التورّط في هذا الغزو، كما انه نصح أوباما بعدم تنفيذ عملية قتل بن لادن بواسطة القوات الخاصة.
وللمفارقة، فإنّ الوثائق التي حصلت عليها الـ CIA من نخبة بن لادن كشفت أنه أمر خلايا «القاعدة» باستهداف اوباما وليس بايدن الذي وجده غير مناسب تماماً لهذا المنصب وبأنه سيقود اميركا الى أزمات، في ما لو قُدّر إليه الوصول الى رئاسة بلاده. وأصبح معروفاً انّ التواصل الذي حصل بين الديموقراطيين، عبر وزير الخارجية السابق جون كيري صانع الاتفاق النووي وايران، تضمّن تفاهماً على العودة الى الاتفاق في حال فوز بايدن بالرئاسة. ولذلك شَنّ السفير الاميركي في اسرائيل توماس فريدمان حملة تخويف للناخبين اليهود، عندما صرّح قائلاً إنّ فوز بايدن «سيؤدي الى تحوّل في السياسة الاميركية تجاه ايران بطريقة تضرّ بإسرائيل ودول الخليج». وأضاف: «انّ بايدن كان جزءاً من ادارة اوباما التي فاوضَت ونفّذت صفقة ايران».
لكن اللافت اللغة الجديدة التي بدأت تظهر في اسرائيل، فرئيس دائرة الابحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية «أمان»، دور شالوم، قال لصحيفة «يديعيوت احرونوت» انه «لم يثبت حتى الآن انّ الانسحاب (الاميركي) من الاتفاق النووي خَدمَ اسرائيل». وأضاف: «انّ ايران بعيدة عن السقوط على ركبتيها». وتابع المسؤول عن وضع التقييمات القومية امام الحكومة الاسرائيلية «انّ الاستراتيجية الاميركية المستقبلية هي فرض أقصى حد من الضغوط، والى جانب ذلك إبرام صفقة التسويات». وربما اختصَر شالوم المعادلة الاميركية للمرحلة المقبلة. وقد يتولى ترامب بنفسه تصعيد الضغط على ايران وحلفائها الى الحد الاقصى في المدة الفاصلة عن تسليم السلطة في حال خسارته بسَعي منه لِجَعل مهمة بايدن أصعب تجاه ايران، خصوصاً في ظل التفكك الذي اصاب تركيبة دول الشرق الاوسط وأنظمته بسبب الحروب والنزاعات والمواجهات والازمات الاقتصادية، والتي فاقمت جائحة كورونا من حدّتها وخطورتها.
التقديرات تتحدث عن تطورات كبيرة ستصيب العراق في ظل ظروف «مشجعة»، ذلك انّ شعبية رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، القريب من الاميركيين، تسجّل ارتفاعاً لتصل الى نحو 80 % وفق استطلاعات الرأي، 70 % منهم من الشيعة، في مقابل تراجع شعبية القوى المؤيدة لإيران. ومن هنا ظهر طرح لواشنطن يقضي بإقفال السفارة الاميركية في بغداد قريباً، في مقابل توجيه الجيش العراقي ضربة ضد «الحشد الشعبي»، خصوصاً مع استمرار التباعد بين مرجعية النجف وايران. وفي شكل موازٍ، ستعمل واشنطن على فرض عقوبات أكثر قساوة ضد ايران، بهدف خَنق التواصل الاقتصادي والمالي بينها وبين العالم بنحو شبه كامل.
وفي لبنان يُعمل على فرض نمط جديد من العقوبات على «حزب الله» وحلفائه، وستكون الآثار موجعة في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعيشه البلد. ذلك أنّ التقديرات تؤشّر الى انّ ترامب، الذي فَكّر مرة برفض نتائج الانتخابات في حال خسارته، سيعمل على إثارة أكبر مقدار مُمكن من الفوضى لقطع الطريق على بايدن، أو على الأقل لزيادة مَتاعبه. وهو ما يعني أنّ الاشهر المقبلة ستكون اكثر صعوبة على لبنان. وفي حال فوز بايدن، فإنّ انطلاق عجلة الادارة الجديدة سينتظر استكمال التعيينات الاساسية فيها، وهو ما لن يحصل قبل الربيع المقبل، ما يُحتّم ربما على لبنان التعاون مع المبادرة الفرنسية لكي يحصل على بعض الاوكسيجين ويتجنّب الاختناق الكامل.
فهنالك من يرغب في أخذ لبنان الى طاولة التسويات في المنطقة، وبالتالي ضَم ملفه الى الملف الكبير لكي يتم التفاهم على صيغة حكم جديدة له من ضمن التسوية الكبرى في المنطقة. وربما لذلك سعى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للضغط على جميع الأفرقاء من خلال الدعوة الى المشاورات لتسمية رئيس جديد للحكومة، ولو أنّ أيّ تحضير او تشاور داخلي لم يواكِب ذلك. كان عون في الاساس يفكر في التلويح بعَزمه على الدعوة للمشاورات، لكنه قرر الذهاب مباشرة الى توجيه الدعوة رسمياً، لكي يكون الضغط في حدّه الأقصى. وهذا ما يفسّر وجود مسافة زمنية واسعة تصل الى 9 ايام بهدف إفساح المجال امام المشاورات الداخلية بين القوى السياسية وقصر بعبدا. وبما انّ الانطباع الاول الداخلي هو أنّ الحركة التي ستحصل ستكون بلا بركة، فإنّ التوقعات تشير الى انّ موعد الاستشارات الخميس المقبل يجب تأجيله على الأرجح. ورئيس الجمهورية أرادَ بذلك، إضافة الى الضغط الداخلي، تَوجيه رسالة ايجابية الى الفرنسيين الذين ما زالوا متمسّكين بمؤتمر دعم لبنان، والذي هو حاجة ماسّة للاقتصاد اللبناني، كما أنه يريد تجنيب نفسه الآثار السلبية التي ستنتج بسبب الكوارث المالية والمعيشية التي ستصيب لبنان قريباً وقد تفتح باب الاضطراب الامني، وعلى اساس انّ عقدة ولادة الحكومة تكمن عند غيره.
ربما العنوان الفعلي لملف ولادة الحكومة يتراوح بين ما اذا كان ما زال استحقاقاً داخلياً ام انه أصبح ملفاً إقليمياً. حتى الآن تبدو الحكومة عالقة كليّاً في الحسابات الاقليمية المعقدة.