Site icon IMLebanon

الانتخابات الاميركية: أولويات الداخل

انتخابات الرئاسة الاميركية حدث سياسي واعلامي صاخب ومكلف، «صُنع في اميركا» ولأجلها. لا تُشبه انتخابات الرئاسة الاميركية أيا من الانتخابات في الانظمة الرئاسية ولا طبعا الانتخابات في الانظمة البرلمانية. الولايات تبقى حجر الزاوية في النظام الفدرالي الاميركي، وفي الانتخابات الرئاسية تحديدا.

بمعزل عن مواقف المرشحين وخيارات الناخبين، الانتخابات الرئاسية مناسبة «لتسويق» المنتّج (product) الديمقراطي على الطريقة الاميركية. وهذا يعكس خصوصية نظام الاقتراع (winner-take-all) في كل من الولايات الخمسين وهيئة المندوبين (electoral college) لكل من الحزبين. وقد يؤدي هذا الامر الى انتخاب رئيس من دون ان ينال الاكثرية الشعبية. وعلى رغم منتقديه الكثر، النظام الانتخابي مستقر بإرادة الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. لذلك من الصعب ان يبرز مرشح من خارج صفوف الحزبين منافسا جديا لمرشحَي الحزبين المعتمَديْن. نظام الحزبين قائم وفاعل قبل ان تصبح الولايات المتحدة دولة عظمى.

الولاية الرئاسية لأربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، مضافا إليها الحملات الانتخابية داخل الحزب وخارجه، تساهم في الحدّ من قدرة الرئيس على التحرك بفاعلية، خصوصا في السياسة الخارجية التي تتطلب نَفَسا طويلا وثباتاً في القرار. صانع السياسة الخارجية الاميركية هو بالدرجة الاولى الرئيس وقرار الحرب بيده لمدة 60 يوما، يحتاج بعدها الى موافقة الكونغرس. خارج فترات الحروب، لم يكن للسياسة الخارجية دور حاسم في الانتخابات الرئاسية الاميركية. حربا كوريا وفيتنام واخيرا حرب العراق، احداث اثرت في الخطاب الانتخابي الرئاسي وفي توجهات الناخبين.

لكن على مرّ السنين، تقلص الفارق بين الحزبين في مضامين السياسة الخارجية لاسيما منذ انتهاء الحرب الباردة. ولولا الارهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في 11 ايلول 2001 لطغت المسائل الداخلية على السياسة الخارجية. في مرحلة ما بعد الحرب الباردة برز التحدي الصيني في السياسة الخارجية الاميركية، لاسيما الجانب الاقتصادي منه. الا ان احداث الشرق الاوسط فرضت اولويات اخرى ادت الى تدخل عسكري اميركي، بعد الاجتياح العراقي للكويت ولاحقا في افغانستان والعراق.

في الانتخابات الرئاسية الحالية التي تشهد تنافسا حادا بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، وهما على طرفي نقيض في الخلفية والشخصية والاسلوب، لم يكن للسياسة الخارجية اهمية خاصة. والكلام عن الشرق الاوسط، مثلا، دخل المعركة بسبب أداء هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية سابقا، في ليبيا وليس بسبب الازمة الليبية بحدّ ذاتها او سواها من ازمات المنطقة وحروبها.

سياسة اوباما الخارجية يعارضها اركان الحزب الجمهوري، الا ان المرشح الجمهوري ترامب لا يملك تصورا لسياسة خارجية تتجاوز الشعارات الداعية الى استعادة الولايات المتحدة دورها المؤثر في السياسة الدولية. السياسة الخارجية بالنسبة الى ترامب تتلخص الى الآن ببناء جدار فاصل مع المكسيك وباجراءات التضييق على المهاجرين الى اميركا، بينما كلينتون قد تتّبع سياسة مشابهة في خياراتها الكبرى لسياسة اوباما.

اما الشرق الاوسط فلم يعد في صدارة اهتمامات اي من الحزبين بالمقارنة مع حقبة ما بعد «سلاح النفط» في 1973 او بعد الاجتياح السوفياتي لافغانستان والاجتياح الاميركي للعراق. تصالحت واشنطن مع طهران وستبقى العلاقات متوترة بين الطرفين، ولن تتخلى واشنطن عن دعمها لامن دول الخليج. وفي سوريا التعاون قائم بين اميركا وروسيا للتصدي للارهاب، وان اختلفت المواقف بالنسبة الى النظام وموقعه في التسوية. وعلى رغم تهويل ترامب، فلن يكون سهلا ان تنجرّ اميركا الى حروب جديدة في المنطقة. ظروف حربي افغانستان والعراق لم تعد قائمة. اما النزاع العربي ـ الاسرائيلي فلم يعد يُشغل بال الادارة الاميركية في ظل التفوق العسكري الاسرائيلي في موازين القوى الاقليمية الراهنة.

التغيير الاعمق في اميركا الذي يمكن ان يؤثر في السياسة الداخلية والخارجية في المدى المنظور يرتبط بالتحولات الديمغرافية داخل المجتمع الاميركي. في انتخابات التجديد للرئيس اوباما كان لاصوات الناخبين من اصول لاتينية (اميركا اللاتينية) تأثير حاسم. والخريطة الديمغرافية تؤثر في الكونغرس الذي يتأثر بدوره بأدوات الضغط عبر «اللوبيات» النافذة داخل الكونغرس وخارجه. المنحى العام لمعركة الرئاسة في 2016 يتمثل بجنوح القاعدة الديمقراطية يسارا والقاعدة الجمهورية يمينا. وفي الحالتين المضامين مبعثرة.

وعلى رغم الكلام الرائج في السنوات الاخيرة عن التراجع النسبي في هامش التفوق الاقتصادي الذي كانت تتمتع به اميركا في مراحل سابقة، فهي لا تزال في موقع بالغ التأثير على المستوى الدولي، وهي قادرة ان تؤثر في استقرار الاقتصاد العالمي.

صحيح ان الولايات المتحدة دولة عظمى بالمقاييس كافة، الا ان الناخب الاميركي، شأنه شأن أي ناخب في اي دولة في العالم، يكترث بالاعتبارات المحلية او الداخلية، ولا تدخل في حساباته عادة اولويات العالم الخارجي، ومنها دول المنطقة وشعوبها وصراعاتها المتواصلة.