IMLebanon

التفلت الدولي واستنزاف السياسة الخارجية الأميركية

 

لم تشهد العلاقات الدولية حالة من الفوضى والتفلت كتلك التي نشهدها اليوم، ولم يمر على النظام الدولي هذا القدر من التدهور. هذا ما أكدته الأحداث الأخيرة التي جرت في أكثر من منطقة في الشرق الأوسط وردود فعل القوى الدولية عليها، وآخرها الحملة العسكرية التي شنتها تركيا في شمال شرقي سوريا بحجة إنشاء منطقة عازلة تحت سيطرتها وخارج قبضة الأكراد السوريين، تستوعب ما بين 2 و3 ملايين لاجئ تنوء أنقرة تحت ثقلهم.

وعلى الرغم من شبه الإجماع الدولي على رفض وشجب هذه العملية، يبدو أن تركيا مصممة على مواصلتها. صحيح أن تركيا دولة لها ثقلها الإقليمي ويحتل جيشها المرتبة الرابعة بين أقوى جيوش حلف الناتو والتاسعة عالمياً، لكن السبب وراء خطوتها المتفلتة تلك يبقى الاختلال الذي أصاب العلاقات الدولية نتيجة لما يصفه البعض باستنزاف السياسة الخارجية الأميركية وعجز الدول الكبرى الأخرى عن سد الفراغ الذي خلفه هذا الاستنزاف.

ولعل مواقف الإدارة الأميركية منذ قرار سحب القوات الأميركية من سوريا، تعبر أصدق تعبير عن حالة التخبط التي تعيشها واشنطن. أكثر من طرف أميركي خالف هذا القرار وعلى رأسهم الكونغرس عبر مجموعة Syria Study Group التي أنشأها والتي نشرت مؤخراً تقريراً شرحت فيه مخاطر الانسحاب من سوريا وضرورات استمرار الوجود العسكري الأميركي في هذا البلد. وعلت أصوات عديدة شاجبة للقرار من بين الجمهوريين والديمقراطيين معاً، في مشهدية باتت نادرة هذه الأيام. وبغض النظر عن ردود الفعل هذه، فقد جاء هذا القرار ليعزز الانطباع السائد بشأن سياسة واشنطن القديمة الجديدة بالتخلي عن حلفائها في وسط الطريق، ما يهدد علاقاتها معهم ويهز مصداقيتها، ويشجع المناهضين لها على التمادي في سياستهم المضعضعة لاستقرار المنطقة.

في السياق نفسه، يأتي اعتبار الرئيس ترمب التدخل في الشرق الأوسط «أكبر خطأ ارتكبته أميركا في تاريخها لأن حروبها لا تنتهي»، ليُظهر الرؤية المسطحة لدولة هي الأقوى في العالم، أقله حتى اليوم. ولعل الرئيس ترمب قد نسي في قوله هذا أن ألدّ أعداء بلاده كما أكبر حلفائها هما في هذه المنطقة! فناقض بشكل صارخ سياسة الضغوط القصوى التي اعتمدتها إدارته ضد طهران لحثها على تصويب أدائها، وخالف مسار تعامله مع إسرائيل وهو الذي أعطاها ما رفضته أي إدارة سابقة. فهل التخلي عن المنطقة ينسحب على إسرائيل أيضاً؟ وتتويجاً لهذا التناقض، يأتي إعلان وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، عن عزم بلاده إرسال ثلاثة آلاف جندي أميركي إضافي إلى السعودية!

لا تستطيع دولة عظمى مثل أميركا أن تنأى بنفسها عن نزاعات منطقة على غرار الشرق الأوسط، لأن هذه النزاعات الداخلية والإقليمية باتت مدوَّلة، وتحول البعض منها إلى أزمات عالمية جرّت مخاطر عدة على العالم بأسره نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، التطرف والإرهاب واللاجئين، كي لا نسهب بالحديث عن الحرب السورية التي بدأت للمطالبة بالحرية لتتحول إلى ملعب مبارزة بين القوى الإقليمية والدولية، إلى اليمن وليبيا والعراق، وصولاً إلى لبنان حيث ترْك «حزب الله» ليلعب دوراً خارج الحدود اللبنانية كقوة تؤثر في أغلب البلدان التي ذكرنا.

إضافة إلى كل ذلك، تأتي المواقف الأميركية من الحملة التركية في سوريا لتعزز الانطباع السائد أنّ في واشنطن أكثر من سياسة: سياسة ترمب، وسياسة الإدارة وتتضمن أكثر من وجهة نظر، وسياسة الكونغرس. ففي حين أعلن ترمب بدايةً عن خيارات ثلاث «إما أن نرسل آلافاً من جنودنا ونحقق نصراً عسكرياً، وإما أن نوجه ضربة مالية إلى تركيا، وإما أن نقوم بالوساطة بين تركيا والأكراد»، أعلن مشرعون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس إعدادهم مشروع قانون ينص على فرض عقوبات على رئيس تركيا وعدد من وزرائها بسبب عمليتها العسكرية في سوريا، ليلحق بهم ترمب بعد ذلك ويؤكد وزير الخزانة ستيفن منوتشين، نيابةً عنه، عزمه فرض عقوبات قاسية على تركيا بهدف شل اقتصادها «إذا ارتكبت أي تجاوزات»، طبعاً دون تحديد معايير لهذه التجاوزات لتلقى ربما مصير الخطوط الحمر لدى أوباما.

هذا الخليط الغامض الذي استعرضناه لمواقف دولة عظمى كافٍ ليُحدث اضطراباً في العلاقات الدولية، في وقت صار فيه تكرار وصف السياسة الأوروبية بالعجز ممجوجاً، وممجوج أيضاً إعادة القول إن موسكو تتقن التكتيك واقتناص الفرص وبكين متريثة ومنتظرة، ما يجعلهما عاجزتين عن ملء الفراغ الأميركي.

المحصلة أن سياسة واشنطن التي قد تكون قد سمحت لتركيا عن غير قصد ربما بتنفيذ عمليتها في الداخل السوري مهما كانت حدودها أو تغاضت عن قصد عنها، سوف تزيد الصعوبات أمام تسويةٍ سياسيةٍ للحرب في سوريا من جهة، وتؤدي من جهة أخرى إلى تداعيات في الأمن والسياسة كانت المنطقة في غنى عنها. فهذه الحملة خدمت النظام في دمشق وقد تمهد الطريق أمام عودته للجامعة العربية جراء التضامن الذي ظهر ضد الحملة التركية وتأكيد عروبة الأراضي السورية ووحدتها، ومن الممكن أيضاً أن تفتح أمامه باب العودة إلى هذه المناطق، وهذا ما تسعى إليه موسكو عبر دعوتها تركيا إلى محاورة النظام السوري وفي ذلك خدمة لها ولحلفائها. النتائج ستكون تعريض المنطقة لمزيد من الحروب والنزاعات بسبب الانتفاخ الزائد والمَرَضي لهذه الأطراف والضمور الذي لحق بأطراف أخرى، ما يعني اختلالاً إضافياً في التوازن المطلوب والضروري لتحقيق السلام في الإقليم.

مما لا شك فيه أن إدانة العملية التركية مطلوبة، لكن المطلوب أكثر هو العمل على وقفها، لأن الثمن الذي قد يترتب جراء تعويم نظام الأسد بعد كل الجرائم التي ارتكبها دون أن يسقط حرفاً واحداً من كتاب القتل والتهجير والتدمير والخطف والتعذيب سيكون كبيراً، ولن تقتصر تداعياته على سوريا أو المنطقة فحسب، بل سيتمدد إلى خارج الإقليم. قد تكمن الخطوة الأولى في معالجة مشاكل المنطقة بالتحرك سريعاً لإعادة التوازن ليس إلى النظام الإقليمي فحسب بل إلى النظام الدولي أيضاً، وهو تحرك مطلوب من العالم الغربي الليبرالي وعلى رأسه الولايات المتحدة وأوروبا، مطلوب منهم لأنهم الدول المدافعة عن مصالحها، وهذا لا عيب فيه، ولكن أيضاً عن حقوق الإنسان والحريات العامة والمشاركة السياسية وسيادة القانون. مطلوب منهم لأنهم دول القيم الديمقراطية.