قد تكون السياسة الخارجية الاميركية محيّرة لكثر، وقد يرى فيها البعض مخططات تلامس المؤامرة، مع ما يرافق هذه المقولة من ادِّعاءات أصحابها بالإلمام بتفاصيل السياسة الدولية وأسرارها. الواقع ان السياسة الخارجية الاميركية هي نتاج قرارات لا مؤامرات. وبتبسيط شديد، فهي تتأثر بعوامل ثلاثة: اولاً، النظام السياسي الرئاسي الخاضع لسلطة الرقابة والمساءلة من الكونغرس؛ ثانياً، النظام الديموقراطي لجهة تداول السلطة، الرئاسة تحديداً كل أربع او ثماني سنوات، وهي عادة المبادِرة في السياسة الخارجية؛ وثالثاً، الأحداث والتطورات الخارجية المؤثرة على مصالح الولايات المتحدة وأمنها. كما أن النظام الفدرالي الاميركي وآلية صنع القرار في الشأنين الداخلي والخارجي أخذ معالمه المعروفة قبل ان تصبح الولايات المتحدة دولة عظمى بنحو قرنين.
في السياسة الخارجية الاميركية ثوابت تختلف بين منطقة وأخرى. ثمة ثوابت معروفة للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط، أبرزها حماية مصادر النفط وطرق إمداده والدعم المطلق لإسرائيل، إلا أنها ثوابت عرضة للتبدل. محرك سياسة واشنطن الخارجية في الشرق الاوسط في السنوات الاخيرة كان أحداث المنطقة. وإذا سلّمنا جدلاً بمقولة المؤامرة، وعلى سبيل المثال، الرواية المتداولة ان السفيرة الاميركية إبريل غلاسبي أوحت لصدام حسين بعدم ممانعة غزو الكويت، فإن قرار الغزو وضم الكويت الى العراق محافظة ادارية وعدم الانسحاب بعد أشهر من المفاوضات مع الدول الكبرى التي كانت تعدّ العدة للحملة العسكرية لتحرير الكويت هي قرارات اتخذها صدام حسين ولم يتراجع إلا بعد هزيمة الجيش العراقي. ومن اوحى للرئيس العراقي عبد الكريم قاسم بمحاولة غزو الكويت في 1961 وتصدي بريطانيا وعبد الناصر له؟ ومن أوحى «بغزوة» 11 ايلول في نيويورك وواشنطن؟ مغامرة صدام حسين في الكويت ساهمت في صنع سياسة الرئيس بوش الأب، وبن لادن ساهم في صنع سياسة بوش الإبن بعد اعتداءات 11 ايلول.
هذا يعني أن أحداثاً معينة قد تحمل واشنطن على اتباع سياسات يُحسن استعمال مفاعيلها أو قد تؤدي الى نتائج كارثية. وهذا الأمر مرتبط أيضاً بالمسؤولين المولجين تنفيذ هذه السياسات. فالفرق شاسع مثلا بين الرئيس بوش الأب، الذي كان له معرفة واسعة بالسياسة الدولية والرئيس بوش الإبن الذي سلّمت إدارته العراق لمسؤولين متهورين من أمثال بول بريمر، بينما استعان بوش الأب بوزير الخارجية جيمس بايكر وسواه من أصحاب الكفاءة والدراية. اجتاح الجيش الاميركي العراق لإنهاء نظام صدام حسين ولإقامة شرق اوسط جديد ولاحتواء إيران، وانسحب لاحقاً متعاوناً مع «صحوات» العشائر وفَتَح العراق امام النفوذ الإيراني بعدما دخلت البلاد في فوضى عارمة لم يسلم منها الجيش، الذي حلّه بريمر، ولا الدولة أو المجتمع. فلا يجب التقليل من قدرة واشنطن على إلحاق الأذى بنفسها وبالغير.
الطروحات التغييرية التي أطلقها الرئيس الاميركي ويلسون بعد الحرب العالمية الاولى لم تلاق دعماً من الكونغرس، وظلت واشنطن خارج «عصبة الأمم» التي اقترحها ويلسون. بعد الحرب العالمية الثانية، لم يحسم اعضاء نافذون في الكونغرس امرهم لجهة الانخراط الكامل في الحرب الباردة إلا بعد حرب كوريا. الدعم الأميركي لإسرائيل كان محدوداً قبل حرب 1967. الصدام مع إيران بعد الإطاحة بالشاه حصل في البداية من الجانب الإيراني وليس من «الشيطان الأكبر»، بعد احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية. تعاونت واشنطن مع الإخوان المسلمين في مصر بعد وصولهم الى الحكم وقد تتعاون مع حركة طالبان بعد خروج القوات الدولية من أفغانستان، وهي الحليف الأقرب لأنظمة إسلامية متشددة ولعدد من الأنظمة السلطوية. إنها براغماتية بلا حدود منذ ان اصبحت الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الاكبر في المعسكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. فلا تاريخ استعماري لأميركا ولا روابط تاريخية او ثقافية مع الدول والشعوب ولا عقدة ذنب، خلافاً لسواها من الدول الكبرى. المصلحة تطغى على الاعتبارات الأخرى.
مع الرئيس باراك اوباما حالة استثنائية في السياسة الخارجية، في الشرق الأوسط تحديداً، وهي مزيج من سياسة الرئيسين كارتر ونيكسون، لكن في ظروف دولية وإقليمية مختلفة، اي مثالية كارتر معطوفة على واقعية نيكسون. بدأ اوباما عهده بسقف مرتفع في النزاع العربي – الإسرائيلي وعاد وتراجع، خلافاً لكارتر، وربما قطع الأمل من إمكانية تسوية النزاع والشريك الإسرائيلي نتنياهو، فالتفت باتجاه تسوية ممكنة مع إيران، العضو الأبرز في «محور الشر»(سابقاً)، مثلما فعل نيكسون بالانفتاح على الصين الشيوعية (أحد «محاور شر» تلك الحقبة بمفعول رجعي) في 1972 في عز احتدام حرب فيتنام والحرب الباردة. العلاقات بين اميركا وإيران هي أفضل حالاً في لوزان مما ستكون عليه في واشنطن وطهران. وفي مرحلة ما بعد الاتفاق النووي بصيغته النهائية، ستكون احتمالات الصدام العسكري بين واشنطن وطهران واردة، خصوصاً في حال لم تلتزم إيران بنود الاتفاق أو لأسباب اخرى قد تفتعلها إسرائيل أو واشنطن بعد باراك أوباما، أو الإثنان معاً.
شرق اوسط مطلع القرن الحادي والعشرين أسير نزاعات تاريخية وعصبيات قاتلة، بينما أميركا دولة عظمى، حرة، متغيرة وأقل اكتراثاً بصراعات المنطقة من قبل. وهذا الأمر ينسحب نسبياً حتى على الحليف المدلّل، إسرائيل، الولاية 51 غير الرسمية، على رغم ما لها من نفوذ يفوق في بعض الأحيان نفوذ رئيس الولايات الخمسين. إلا أن هذا النفوذ لم يعد بلا ثمن (cost-free) او حساب.