بعد زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الأخيرة الى بيروت التي عاد منها بخفي حنين الى القمّة الأميركية- الفرنسية التي ستُعقد في باريس في 8 حزيران الجاري على هامش الإحتفالات السنوية بالذكرى الثمانين لإنزال الحلفاء في النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية (1944)، وذلك لعدم تمكّنه من إيجاد أو تحضير الأرضية المناسبة لانتخاب رئيس الجمهورية، لفت ما كشفه مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة والإستثمار آموس هوكشتاين الخميس المنصرم في مقابلة أجرتها معه مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي. فقد أكّد هوكشتاين أنّ “اتفاقاً للحدود البريّة بين “إسرائيل” ولبنان يتمّ تنفيذه على مراحل قد يُخفّف من الصراع المحتدم والدامي بين البلدين”. وهذا يعني بأنّ الملف اللبناني سيكون على طاولة القمّة المرتقبة بين الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بما فيه الإستحقاق الرئاسي، وحرب غزّة والمواجهات العسكرية عند الجبهة الجنوبية، واتفاق الحدود البرّية، والأزمة الإقتصادية والمالية، وقطاع النفط والغاز في البلوكات البحرية، كونها كلّها مترابطة ببعضها البعض.
كشفت أوساط ديبلوماسية متابعة لملف الحدود البريّة بين لبنان و”إسرائيل” بأنّ المفاوضات حول الحدود البريّة مستمرة اليوم من تحت الطاولة ومتقدّمة… وهذا يعني أنّ “الإتفاق البرّي” لم يُنجز بعد، ولكنه على وشك أن يُبصر النور، على ما يُحاول هوكشتاين أن “يستعرض” قبل القمة الأميركية – الفرنسية المرتقبة. علماً بأنّ “الإتفاق الموعود” لن يحلّ السلام الدائم بين “حزب الله” و”إسرائيل”، على ما ذكر الوسيط الأميركي، كون هذا الأخير لن يحلّ كلّ الخلافات القائمة اليوم بين الطرفين عند الحدود الجنوبية، إنّما سيترك البحث في مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا الى وقت لاحق.
فالذرائع التي تقودها “إسرائيل”، ويتبنّاها هوكشتاين عن أنّ المزارع ليست لبنانية، ولا بدّ من حلّ مسألتها مع سوريا أولاً، رغم اعتراف دمشق بلبنانية المزارع أمام الأمم المتحدة، على ما أضافت، ووجود إتفاقيات وخرائط تؤكّد لبنانيتها بحوزة الأمم المتحدة، لا ترتبط فقط بالأراضي التي تحتلّها القوّات الإسرائيلية اليوم، أي بالمزارع وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، والنخيلة (بمساحة مليوني متر والتي لا تُذكر خلال المفاوضات)، إنّما بمكتسباتها من هذا الإحتلال. فهوكشتاين لا يريد إيجاد حلّ لمزارع شبعا في الوقت الراهن، لأنّ “الإسرائيليين” لديهم أطماع كبرى فيها، ولا يريدون الإنسحاب منها، ولهذا يلقون باللائمة على لبنان وسوريا، ويقولون بأنّ عليهما الإتفاق أولاً.
فالسلام الذي لن يكون دائماً وأبدياً، على ما يُبشّر الوسيط الأميركي، وفق الأوساط نفسها، سببه أطماع “إسرائيل” التي لا تنتهي في لبنان والمنطقة. فجبل الشيخ يُطلّ على الجليل وعلى دمشق. وهو وسفحه (أي مزارع شبعا) يُشكّلان أكبر خزّان مياه جوفية في منطقة الشرق الأوسط، فكيف ستنسحب “إسرائيل” منها؟ قد توافق على الإنسحاب الى وادي العسل نحو 2 كليومتر فقط، ولكن مع استبعاد هذا الأمر أيضاً… إلّا إذا كان الأميركيون يريدون تقوية “الخيار الثالث” أو “الرئيس الوسطي” الذي سيُنتخب من خارج خيار قوى الممانعة، ومرشحها الوزير السابق سليمان فرنجية. ولكن على ما يبدو أنّهم يريدون مراضاة الممانعة ولو بالحدّ الأدنى…. علماً بأنّ المطلب اللبناني الرسمي هو وادي العسل. ويودّ اللبنانيون (أو هيئة أبناء العرقوب تحديداً) إسترجاع القمم (أي النسبة المقبلة والفوّار) شرق وادي العسل. في حين أنّ “تلال كفرشوبا” تقع غرب وادي العسل…
ومن هنا، إذا جرى تأجيل البتّ بمسألة مزارع شبعا، وحصل الإتفاق البرّي على الحدود، فإنّ كلّ طرف سيفسّره على طريقته، وسيُعلن أنّه خرج منتصراً من توقيعه مع الطرف الآخر، على ما تابعت، وهذه هي طريقة هوكشتاين التي تجلّت في “اتفاق الترسيم البحري بين لبنان و”إسرائيل”. واستبعدت حصول أي إنسحابات إسرائيلية، مشيرة الى إمكانية حصول بعض التنازلات اللبنانية، ولكن سيتمّ تسويقها في الإعلام على أنّها “إنتصارات” (على ما حصل في البحر). الأمر الذي من شأنه تعزيز موقع الممانعة.
ورأت الأوساط الديبلوماسية أنّ هوكشتاين يتلاعب بالألفاظ، ويوحي بأن الإتفاق أصبح منجزاً. في الوقت الذي يتحدّث فيه عن “السلام بين “حزب الله” و”إسرائيل”، فلماذا لا يقول بين لبنان و”إسرائيل”؟ كما يذكر بأنّه “إذا تمكّنا من التوصّل الى سلسلة من التفاهمات… والتخلّص من بعض الدوافع للصراع وإقامة حدود معترف بها لأول مرّة على الإطلاق بين البلدين، فأعتقد أنّ ذلك سيقطع شوطاً طويلاً”. لماذا “سلسلة”؟ وكيف أنجز الإتفاق قبل التفاهم على هذه السلسلة، وقبل التخلّص من دوافع الصراع التي تحتاج الى وقت طويل لحلّها؟علماً بأنّ الترابط بين حرب غزّة والجبهة الجنوبية لا يُمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وبالتالي عن اتفاق الحدود البريّة.
ولفتت الى أنّ اللبنانيين لا يزالون حتى الساعة غير متفقين على نطاق مزارع شبعا وحدودها الشرقية، لكي يُصار الى البتّ بأمرها. ولكن ما يؤكّد أنّ المزارع لبنانية، هو أنّه في العام 2000، قدّم اللواء جميل السيّد ضمن المذكرة اللبنانية الى الأمم المتحدة خريطة اتفق فيها مع السوريين على حدود مزارع شبعا. وهذا اعتراف ضمني من قبل سوريا. حتى لو شكّكت الأمم المتحدة بهذه الخريطة، ولو قام السوريون بإطلاق تصريحات متناقضة، ولو لم تُرفق سوريا مذكّرة خطيّة، ولو لم يتمّ توقيع اتفاق بين لبنان وسوريا في العام نفسه. وإن لم يبلغوا الأمم المتحدة بهذه الخريطة بوثيقة رسمية حتى، فإنهم لم ينكروا أنهم وافقوا على خريطة اللواء السيد. فهذه الخريطة وثيقة قانونية وسياسية ومقبولة على الصعيد الدولي، وقد حدّدت حدود المزارع بوادي العسل.
وعمّا أورده هوكشتاين في حديثه الأخير عن أنّ الإتفاق يتطلّب تعزيز القوّات المسلّحة اللبنانية، بما في ذلك التجنيد وتدريب وتجهيز القوّات، من دون أن يوضح كيف سيحصل ذلك، فتقول الأوساط ذاتها، بأنّ الولايات المتحدة ستكون راعية لموضوع تسليح الجيش، إن عبر تقديم مساعدات عسكرية له، على غرار ما تفعل، أو الطلب من بعض الدول الخليجية تسليحه. في حين وجدت أنّ كلامه عن “حزمة إقتصادية للبنان” وإستثمار المجتمع الدولي في لبنان، وإيجاد حلّ لمشكلة الكهرباء، يصبّ في إطار المغريات التي يعتمدها الوسيط الأميركي لحث اللبنانيين على الموافقة على مقترحه بهدف تحقيق إنجاز ثانٍ في لبنان، أي توقيع إتفاق الحدود البريّة بين لبنان و”إسرائيل” فور وقف إطلاق النار في غزّة وفي جنوب لبنان، وإن كان لن يُحقّق السلام الدائم بين الطرفين.