تزامُن حصول بعض الأحداث التي يخدم حصولها أحد محاور الصراع قد يكون مجرّد تزامُن طبيعي لتطورات استوَت في هذا التوقيت بالذات، وقد يكون نتاج صفقة سياسية فتحت الباب على تسويات بالجملة، كما يمكن ان يكون نتيجة دينامية صراعية قررت الاستفادة من توقيت محدّد من أجل ان تسجِّل جملة أهداف.
ما يحصل على مستوى الشرق الأوسط غير طبيعي، بدءاً من الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل الذي لم يكن ليحصل لولا المصلحة الإيرانية أولاً ومصلحة «حزب الله» ثانياً، مروراً بإنهاء الفراغ في العراق وانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة من الخط الإيراني، وصولاً إلى زيارة وفد قيادي من حركة «حماس» دمشق بعد قطيعة دامت 10 سنوات، وليس انتهاء بإمكانية الإعلان قريباً عن اتفاق في شأن استخراج الغاز من السواحل الفلسطينية وتحديداً من حقل «غزة مارين» الذي يزيد مخزونه على تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما يمثِّل قيمة اقتصادية تكفي احتياجات القطاع من الطاقة، ويمكن تصدير الفائض إلى الأسواق الأوروبية، ويبقى أخيراً انّ الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية لإيران و»حزب الله» في سوريا، والتي استمرت لسنوات، يبدو وكأنها قد توقفت.
وقد يكون تَزامُن هذه الأحداث حصل بالصدفة باعتبار انّ نضوجها لم يحصل بين ليلة وضحاها، فوضع اليد الإيرانية على السلطة في العراق لم يكن ليحصل لولا انسحاب كتلة التيار الصدري التي كانت تملك 73 مقعداً، وبالتالي يتحمّل هذا التيار مسؤولية تسليم السلطة لحلفاء طهران في بغداد، لأنّ ميدان المواجهة يجب ان يكون داخل المؤسسات وخارجها، ومن الخطأ تسليمهم هذه المؤسسات على طبق من فضة بدليلّ ان الفراغ كان سيِّد الموقف في العراق إلى ان قرّر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الاستقالة، ولولا هذه الاستقالة لكان أمكَن الوصول إلى تسوية او استمرار الرئيس مصطفى الكاظمي، والأمر نفسه يمكن ان يحصل في لبنان في حال انسحاب المعارضة من المجلس النيابي، خصوصاً ان هناك وجهة نظر تدعو إلى المواجهة السياسية من خارج المؤسسات، ما يعني تسليم البلد إلى محور الممانعة والعودة إلى ما قبل العام 2005، وهذه خطوة تراجعية بامتياز، فيما بإمكان المواجهة ان تتم في أكثر من ميدان وساحة.
أما زيارة وفد حركة «حماس» إلى دمشق فبدأت هذه المساعي منذ فترة طويلة، وتولّى «حزب الله» دور الوساطة في محاولة لإعادة توحيد الصفوف داخل خط الممانعة، وقد لا يكون لِتزامن هذه الخطوة مع الترسيم في لبنان أي علاقة، إلا انّ انتعاش هذا المحور وتوحيد صفوفه يشكّلان خطورة لا يفترض التقليل من شأنها، وتستدعي بالمقابل الجهوزية السياسية في المنطقة ولبنان، لأن أي تبدُّل في ميزان القوى ينعكس سلباً على الفريق السيادي في لبنان.
ويبقى السؤال الأساس: أين تكمن مصلحة النظام الإيراني و»حزب الله» في الترسيم، خصوصاً ان هذا الفريق حال طويلاً دون الترسيم ربطاً بمواقفه التي كانت تدعو باستمرار إلى إزالة إسرائيل من الوجود ومزايداته في الدفاع عن القضية الفلسطينية، فإذا به يُقدم على تطبيع اقتصادي مع إسرائيل خلافاً لمواقفه المعلنة وعلى حساب حلفائه من الفلسلطينيين وفقاً لسرديته السياسية، والكلام هنا ليس عن تطبيع سياسي طبعاً، إنما اقتصادي بامتياز، إذ لولا الضوء الأخضر الإيراني لما حصل الترسيم.
ومن الواضح انّ طهران قرّرت تسليف واشنطن الترسيم في محاولة لمساعدة الإدارة الأميركية في انتخاباتها النصفية من أجل أن تردّ هذه الإدارة الجميل بتوقيع الاتفاق النووي، لأنّ الهدف الاستراتيجي لإيران هو النووي لا الترسيم، فسَعت إلى مساعدة الديموقراطيين في انتخاباتهم على حساب الجمهوريين، فيما هناك من يقول بالمقابل ان تخفيض «أوبك بلاس» لإنتاج النفط يندرج في سياق التدخُّل السعودي في هذه الانتخابات ولكن لمصلحة الجمهوريين، بمعنى انّ الصراع السعودي – الإيراني يُترجم على الساحة الأميركية، وبالتالي مصير النووي سيبقى معلّقاً على نتيجة الانتخابات الأميركية.
وعلى رغم انّ القرار في المسائل الاستراتيجية هو بيَد إيران ودور «حزب الله» ينحصر في الملفات اللبنانية الداخلية التي لا تعتبرها طهران أنها ترتقي إلى المعادلات الدولية والإقليمية، إلا انّ الحزب كَيّفَ مصلحته اللبنانية مع القرار الإيراني بعمقه الأميركي من خلال تحويل الترسيم إلى مناسبة لتجديد إمساكه بمفاصل السلطة عن طريق إبعاد شبح سقوط هيكل الدولة بسبب الأزمة المالية، وإعفاء نفسه من تنازلات إصلاحية وسياسية إمّا لصندوق النقد الدولي أو للدول الخليجية.
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه يَكمن في الآتي: هل هذا الانتعاش لمحور الممانعة يمكن ان يقود إلى إطباقٍ شامل وكامل لـ»حزب الله» على القرار اللبناني؟ والجواب الأساسي يتعلّق بإرادة اللبنانيين الذين يتوقّف على مدى تصميمهم على مواصلة المواجهة ورفض الاستسلام والخضوع، وهناك قول شهير لأحد الديبلوماسيين الذي يحرص كثيراً على الوضع في لبنان بأنّ المشكلة الفعلية ليست في سلاح الحزب الذي لا يمكنه استخدامه في كل الاستحقاقات والمحطات الداخلية، إنما المشكلة الجوهرية هي في مَن يخضع لهذا السلاح ومن يتولى تغطيته وتبريره، وفي حال تمّ توسيع مساحة المناعة داخل الجسم اللبناني يتعطّل مفعول السلاح تلقائياً.
ففي حال واصَلت القوى السيادية مواجهتها ونضالها داخل المؤسسات وخارجها فهناك صعوبة كبيرة أمام إطباق «حزب الله» على القرار اللبناني، وميزان القوى القائم في لبنان أفضل مما كان عليه في العراق قبل الخطوة الانسحابية غير المفهومة لكتلة التيار الصدري، خصوصاً انّ الخروج من المؤسسات لم يُستبدل بخطوة على الأرض تؤدي إلى فرض أمر واقع جديد، وما لا يفترض تجاهله او التقليل من أهميته انّ الحزب خسر الأكثرية النيابية وتراجعت وضعيته داخل البيئات المسيحية والسنية والدرزية وفقدَ حليفه المسيحي صدارته المسيحية لمصلحة «القوات اللبنانية»، فضلاً عن نقمة الرأي العام اللبناني على الحزب الذي يمنع الوصول إلى دولة طبيعية، ولن يكون من السهولة عليه القفز فوق كل هذه الوقائع.
وفي موازاة الوقائع التي أظهرتها الانتخابات النيابية على حساب «حزب الله»، وعلى رغم انّ الترسيم هو نتاج صفقة أميركية-إيرانية، إلا انّ حدودها المُقايضة بين الترسيم والنووي، وعلى رغم انّ ميزان القوى الخارجي يمكن ان يتبدّل تلقائياً في حال فوز الجمهوريين في الولايات المتحدة، إلا انه لا مناخ ولا مؤشرات دولية لصفقة تعيد لبنان إلى حضن الممانعة على غرار المرحلة الممتدة منذ العام 1990 حتى العام 2005.
ومن الثابت ان لا صفقة دولية على حساب لبنان، وقد أكد السفير السعودي وليد البخاري ان المملكة تقف سداً منيعاً أمام اي تسوية على حسابه انطلاقاً من حرصها على استمرار لبنان ضمن المشروع العربي، كما تقف حاجزاً أمام أي محاولة لتطيير اتفاق الطائف الذي على رغم انه لم يطبّق منذ العام 1990، إلا انّ التمسُّك به يمنع على الفريق الآخر الاستفادة من الظروف لتعديله بما يَتوافق مع مشروعه تشريعاً لسلاحه، وسيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تطبيقه.
وهذا لا يعني انّ الوضع السيادي في لبنان جيّد، إلا ان ميزان القوى الداخلي لا يسمح لفريق 8 آذار بأن يتربّع منفرداً على كراسي السلطة وبغطاء دولي، ويتوقّف على القوى السيادية كيفية توحيد صفوفها ومواصلة المواجهة، ولا شك انّ الاستحقاق الرئاسي محطة مهمة في هذه المواجهة، ولكن الأهم قدرتها على جَرّه إلى مواجهة من خارج السقف والعلبة كسراً لستاتيكو تحوّل إلى ورقة رابحة بيد الفريق المُمانع.