صحيح أنّ تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية لم يكن دائماً مفروشاً بالورود كمثل ما حصل أيام باراك أوباما وقبله جورج بوش الأب، إلّا أنّها المرّة الأولى منذ نحو 70 عاماً تشهد العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية أزمة بهذا الحجم.
ففي العام 1956 حصل الإعتداء الفرنسي ـ البريطاني على السويس رداً على قرار تأميم القناة، وإنضمّت إسرائيل الى العملية العسكرية، ما أغضب الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مهدّداً بفرض عقوبات عليها. لكن وعلى رغم من الدرك الذي وصلت اليه العلاقة، إلّا أنّه لا بدّ من التمييز جيداً بين العلاقة العميقة القائمة بين الدولتين والعلاقة المتوترة القائمة بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، والفارق شاسع بين المفهومين. وهذا ما يفسّر التناقض بين اللكمة التي وجّهها بايدن لنتنياهو في مجلس الأمن وبين استمرار الالتزام الأميركي في تزويد إسرائيل الأسلحة والذخائر.
ولا شك في أنّه إضافة الى الحساسية الفائقة السائدة بين نتنياهو وبايدن وقبله أوباما، فإنّ الحسابات الإنتخابية المحشورة فاقمت من حدّة المواجهة. فرئيس الحكومة الإسرائيلية والذي لا يزال بعيداً من استعادة تأييد الشارع الإسرائيلي، يعمل على إبراز الخلاف الحاصل للترويج لصورة الزعيم القوي الذي لا يخضع للضغوط الخارجية، حتى ولو جاءت من أكبر حلفاء اسرائيل. ونتنياهو يدرك جيداً أنّ هذه الصورة جذابة جداً خصوصاً على مستوى شارع اليمين الإسرائيلي. أضف الى ذلك، أنّ نتنياهو الحريص على استهلاك مزيد من الوقت بالحرب، على أمل تحسين شعبيته، كان يخشى أن تُلزمه إدارة بايدن ببدائل أخرى غير الحرب في رفح، ما سيؤدي حكماً الى خلاف حاد مع الوزراء المتطرّفين في حكومته، وبالتالي تقديم استقالاتهم وانقلاب المشهد في اتجاه التحضير لانتخابات جديدة. وهو ما يدفع للإعتقاد أنّ نتنياهو ربما كان يبحث عن ذريعة تجعله يحجم عن إرسال الوفد الإسرائيلي الرفيع الى واشنطن.
وظهر شيء من هذا القبيل مع ما رشح من نتائج زيارة وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت لواشنطن ولقائه بنظيره الأميركي. ذلك أنّ مصادر وزارة الدفاع الأميركية وزعت أنّ الاتفاق كان سائداً حيال حتمية تفكيك كل التركيبة العسكرية لحركة «حماس»، إلّا أنّ الخلاف هو حول طريقة حصول ذلك والطريقة الواجب اتباعها.
ففريق الرئيس الأميركي بات قلقاً بالفعل حيال الانتخابات الرئاسية، والتي تُظهر مختلف استطلاعات الرأي تخلّفه عن غريمه الجمهوري بفارق كبير. وهذا ما دفع بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الى التواصل بنحو متكّرر مع بايدن لتزويده بعض النصائح، نتيجة خبرته، لتجنّب الخسارة الإنتخابية، وفق ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز».
لكن «حشرة» بايدن قد لا تغيّر كثيراً من المعطيات الميدانية في ظل العجز عن تليين إصرار اليمين الإسرائيلي على الحسم العسكري في رفح. قد يكون هنالك معطى واحد فقط يتعلق بتأجيل العملية العسكرية الى ما بعد عيد الفطر، وهو التزام انتزعته مصر من نتنياهو على ما يبدو، إلّا إذا حصلت تسويات سياسية تنزع الذريعة من يد الحكومة الإسرائيلية، كمثل ما طُرح حول ترحيل القادة العسكريين لحركة «حماس» الى بلدان إفريقية.
ولفتت في هذا التوقيت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية لطهران، حيث التقى مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي. ولم يعد سراً الخلاف القائم بين الجناح السياسي لـ»حماس» والموجود في قطر وبين الجناح العسكري برئاسة يحيي السنوار. وهذا ما دفع بالبعض الى التكهن بطلب هنية من طهران التوسط لدى التركيبة العسكرية لحركة «حماس» من أجل إبداء بعض المرونة. لكن ذلك يبقى في إطار التكهنات.
لكن المثير كان في كلام غالانت في واشنطن، حين اعتبر أنّ وقف اطلاق النار في غزة سيعني الإنتقال فوراً إلى الجبهة اللبنانية. أي أنّه بعد رفح سيحين موعد الساحة اللبنانية. وخلال مواجهات الأشهر الماضية كانت الاستهدافات المتبادلة بين الجيش الاسرائيلي و»حزب الله» تجري على وقع لهيب حرب غزة. لكن ثمة ما هو أبعد من مسألة تبادل اللكمات تماشياً مع بركان غزة. ففي اللغة العسكرية كان كلا الطرفين يعمدان الى إضعاف القدرات القتالية للفريق الآخر تحضيراً لاحتمالات الحرب المفتوحة في حال اندلعت. وهكذا كانت إسرائيل تسعى لاستهداف الكوادر القتالية من النخبة إضافة الى مخازن الصواريخ والأسلحة والقدرات الهجومية، وفي المقابل كان «حزب الله» يعمل على تدمير أجهزة الرصد والاستطلاع والمراقبة ومقرات القيادة، لجعل قدراته الهجومية أضعف. وتخلّل ذلك إطلاق صواريخ أرض ـ جو ما أدّى الى إسقاط طائرة من دون طيار. وبالتالي فإنّ طرفي القتال كانا يمهّدان للمرحلة التي ستأتي حكماً والتي حدّدها غالانت بأنّها بعد رفح.
فمن السذاجة بمكان الإعتقاد أنّ «اليوم التالي» سيقتصرعلى غزة وحدها. فمن المنطقي الاعتقاد بأنّ الخريطة السياسية الجديدة ستشمل كل المنطقة من خلال إعادة تشكيل معادلاتها المعقّدة.
وخلال الأيام الماضية وتزامناً مع وجود غالانت في واشنطن، تعمّق الإستهداف الاسرائيلي أكثر في لبنان، فوصل الى جرود الهرمل بالقرب من الحدود مع سوريا حيث معابر التواصل قائمة. وفي الوقت نفسه تمّ استهداف مواقع للحرس الثوري الإيراني في دير الزور بطيران «مجهول»، ما شكّل أوسع وأكبر هجوم على مواقع إيرانية. وعلى رغم من التنصّل الأميركي من أي مسؤولية، خصوصاً في فترة تشهد هدنة غير معلنة والتوقف عن استهداف القواعد والمواقع العسكرية الاميركية في سوريا والعراق، إلاّ أنّ هنالك من يعتقد أنّه حتى ولو كانت الطائرات إسرائيلية، فإنّ العملية لا بدّ أن يكون قد تمّ التخطيط لها بالشراكة بين القيادتين العسكريتين الإسرائيلية والأميركية.
ذلك أنّ وتيرة الاستهدافات بقيت تحمل مضمون الرسائل نفسها، والتي تؤشر الى ضرورة خروج إيران من سوريا والإمساك بالطريق البري الذي يربط إيران بلبنان.
وتحت العنوان نفسه والمتعلق بـ»اليوم التالي»، فتحت تركيا شهيتها على تعزيز حضورها الميداني وتوسيعه وترسيخه، مرّة في شمال العراق ومرة أخرى في شمال سوريا. لكن ثمة من يرى أنّ الدور الذي تقرّ به واشنطن لتركيا، خصوصاً بعد انسحابها العسكري، قد لا يكون في الحجم الذي تعمل أنقرة على ترسيخه. فعلى ما يبدو انّ طموح تركيا هو أكبر مما هو مرسوم.
وفي الجنوب السوري تحركات ناشطة لتثبيت الوقائع على الأرض، بدءاً من «ثورة» أبناء السويداء ومروراً بانتشار الفرقة الثامنة في الجيش السوري والتي تشرف عليها روسيا، وانتهاءً بالدخول المتجدّد للمجموعات العسكرية المحسوبة كلياً على السلطة السورية، وحيث أفيد عن تصاعد الأحداث الأمنية.
والأهم، ما تردّد عن احتمال عودة الحركة السعودية في اتجاه دمشق لرعاية تفاهمات المرحلة المقبلة والإصلاحات الدستورية المنتظرة. ومن المفترض أن تكون العودة السعودية لملء الفراغ الذي سينتج من الإنسحاب الإيراني.
وفي حال صحّت التوقعات، فإنّ الملف اللبناني ستجري معالجته الى جانب الملف السوري لا قبله. وهو ما يعني أنّ الضغط العسكري الذي سيشهده لبنان بعد إقفال ملف رفح، سيجري بالتوازي مع التطورات في سوريا وصولاً الى إنتاج تسوية سياسية شاملة في سوريا ولبنان.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة توقيت دولة الإمارات العربية المتحدة حول فتح ملف إطلاق المسجونين اللبنانيين لديها. ويبدو أنّ عدداً من الأخطاء قد حصل ما أدّى الى فرملة الاندفاعة التي كانت موجودة، ولو لبعض الوقت.
فوفق المعلومات المتداولة في بيروت، فإنّ «حزب الله» تلقّى رسائل من ديبلوماسي إماراتي في بيروت لكنه لم يتجاوب معها. ولاحقاً تدخّل الرئيس السوري بشار الاسد لدى قيادة «حزب الله» متمنياً التواصل مع المسعى الإماراتي، وهذا ما حصل. وكانت التعليمات التي أُعطيت لمسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا بعدم البحث أو التجاوب مع أي نقاش خارج الإطار التقني لإطلاق المساجين. لكن «تسريب» الخبر جمّد البحث في الملف ولو موقتاً. من الواضح أنّ «فاول» ارتُكب.
لكن السؤال الأهم، هو حول التوقيت وأسبابه وخلفياته. لا شك في وجود حسابات سياسية حتّمت فتح هذا الملف. فالشكل يوحي باستنباط الصورة السياسية لـ»حزب الله»، وقد يكون ذلك كبديل عن الصورة العسكرية التي طبعته منذ انطلاقته والتي تجلّت في دول الخليج العربي أيضاً. وهذه الصورة تعزز الانطباع بوجود تحضيرات للمرحلة المقبلة، والتي من المفترض أن تؤسس لفك الإشتباك الإقليمي عبر الحدود اللبنانية.
لكن هنالك مشكلة أكبر تُرهق لبنان وتكاد تقطع أنفاسه، والمقصود هنا عامل الوقت الضاغط في ظل الانهيار الكبير للدولة اللبنانية ومؤسساتها واقتصادها. فماذا لو استهلك هذا المشروع كثيراً من الوقت؟ هي مشكلة لبنان الحقيقية.