ساد السكون العديد من العواصم، لا سيما في الشرق الاوسط، بعد ظهور نتائج الانتخابات النصفية الاميركية. وفي المقابل، بدا الرئيس الاميركي جو بايدن مسروراً بهذه النتائج، ولم يتردّد في إبداء ذلك عندما قال: «الانتخابات النصفية عززت وضعي السياسي». وبدا الرئيس الذي ينتمي إلى الحزب الديموقراطي وكأنّه في أحد افضل مراحله منذ دخوله الى المكتب البيضاوي. وقد يكون لهذا السبب تحديداً، ظهور ردة الفعل «الصامتة» ولكن المعبّرة جداً، خصوصاً في ثلاث بلدان في الشرق الاوسط، وهي السعودية وايران واسرائيل، ولو لأسباب مختلفة.
ذلك انّ بنيامين نتنياهو الخارج من انتصار انتخابي كان آخر ما يريد سماعه تعزيز وضع وقوة ادارة بايدن، فعدا «الكيمياء» المفقودة بين نتنياهو وبايدن، هنالك حسابات جديدة أُضيفت وجعلت مشهد تأليف حكومة اسرائيلية اكثر تعقيداً. فالإدارة الديموقراطية المؤمنة بخيار «الدولتين» والتي يجاريها اللوبي اليهودي الاميركي، تقف على طرف نقيض مع أحزاب اليمين الديني المتشدّد والمتطرف في اسرائيل، والذي سجّل قفزة انتخابية كبيرة. وهو ما يعني انّ على نتنياهو ان يسعى لتقريب المسافة بينه وبين واشنطن. وفي الوقت نفسه عدم فك تحالفه مع الاحزاب المتطرفة، والتي ترى في نتائج الانتخابات الاسرائيلية فرصة تاريخية لدفع اسرائيل باتجاه ان تصبح دولة دينية بالكامل. ومأزق نتنياهو انّه غير قادر على المغامرة بعلاقة باردة مع واشنطن للسنتين المقبلتين، وفي الوقت نفسه حاجته الملحّة للاتفاق مع الاحزاب المتطرفة لكسب مساندتهم، للنجاح في تشكيل حكومة جديدة، لإنقاذ نفسه من المحاكمة بتهمة الفساد. والسعودية ايضاً لم تكن ترغب بنتائج انتخابات يستفيد منها بايدن وتلعب سلباً ضدّ مرشحها المفضّل للرئاسة الاميركية دونالد ترامب. ومع التذكير هنا بأنّ العديد من المراقبين كان قد وضع قرار خفض انتاج اوبك+ في خانة التأثير على الناخب الاميركي ضدّ الحزب الديموقراطي الحاكم.
صحيح انّ الحزب الديموقراطي يتجّه لخسارة مجلس النواب، ولكن الفارق سيكون ضعيفاً واقل من 7، بينما كانت التقديرات تقول انّه إذا بلغ الفارق بحدود الـ 20 مقعداً فهذا سيكون مقبولاً للإدارة الديموقراطية. وجاءت المفاجأة مع بقاء سيطرة الديموقراطيين على المجلس الأهم وهو مجلس الشيوخ. وفي مقارنة سريعة، فإنّ باراك اوباما كان قد حصد نتيجة كارثية في الانتخابات النصفية عام 2010، حيث بلغت الخسارة 63 مقعداً كفارق.
ودونالد ترامب نفسه كان قد خسر حزبه في الانتخابات النصفية عام 2018 بفارق 40 مقعداً.
ووفق هذه المقارنة يمكن قياس ما يُعتبر نتيجة لصالح بايدن، والأهم انّ ترامب الذي يميل اليه بقوة السعوديون، وحيث حُكي كثيراً عن استمرار حركة التواصل غير المعلنة بين حكام السعودية وصهر ترامب جاريد كوشنر، خرج بنتيجة قاسية جعلت من مسألة عودته الى البيت الابيض مسألة صعبة جداً. فالصراع داخل الحزب الجمهوري لم يتأخّر مع تصاعد اصوات اخصام ترامب، بأنّ الخسارة جاءت بسبب وضع ترامب مصلحته الشخصية قبل مصلحة الحزب.
المهم انّ ترامب ابتعد عن البيت الابيض. والسؤال حول كيفية إعادة ترميم العلاقة بين السعودية وإدارة بايدن.
وايران ايضاً لم تكن مسرورة بالنتائج التي ظهرت. فالوضع الأفضل لديها كان بتصاعد الفوضى السياسية داخل الولايات المتحدة الاميركية، وهو ما كان قابلاً للحصول لو حقق ترامب نقاطاً لصالحه. ولا شك انّ ظهور مسلحين عبر وسائل الاعلام قبل فتح صناديق الاقتراع، يفتح شهية التحليل باحتمالات تجدّد أحداث «الكابيتول هيل» ولو في اماكن اخرى. أضف إلى ذلك، انّ سلوك ترامب أوحى بأنّه لا ينتظم وفق أدبيات الاصول الديموقراطية، ما يهدّد الاستقرار الداخلي. وعدا أحداث الكابيتول هيل، حصل اهتزاز في آلية انتقال السلطة، مع رفضه نتائج الانتخابات الرئاسية على اعتبارها مزورة. ولكن بدا انّ الحزب الجمهوري عمل على معالجة هذا الامر واستيعابه، من خلال القبول بكامل نتائج الانتخابات النصفية وعدم التشكيك بنزاهتها.
واستطراداً، فإنّ ايران التي كانت ربما تتمنى فوضى اميركية داخلية تجعل الادارة الاميركية الديموقراطية في موقع ضعيف، ما يسمح بتخفيف الضغط عنها وانتزاع مكاسب اكبر، وجدت نفسها امام سيناريو آخر، وهي التي تريد فك طوق الحصار الاقتصادي عنها، ورفع العقوبات، بعدما ظهر بوضوح انّ الشارع الايراني تعب.
باختصار، من المنطقي الاعتقاد بأنّ ادارة بايدن ستعود بزخم اكبر لإنجاز الملفات المفتوحة امامها، والشرق الاوسط هو إحداها.
والواضح انّ كلام مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف يؤشر لمرحلة ضغوط في الشرق الاوسط ستشمل لبنان.
وحتى الآن لا توجد اشارات بأنّ واشنطن تريد إنجاز الاتفاق النووي، رغم انّه اكتمل من الناحية التقنية والفنية، لا بل هنالك اشارات توحي بالعكس، في وقت تبدو فيه ايران بأمسّ الحاجة لرفع العقوبات عنها.
لذلك، يدخل لبنان مرحلة تصعيد ولكن وفق سقوف وحدود مدروسة. وجاء خطاب امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله ليصبّ في هذا الاتجاه. لكن كلام نصرالله، ولو انّه جاء هجومياً من حيث الشكل، الّا انّ اوساطاً ديبلوماسية غربية قرأت فيه دعوة للحوار في المضمون. فهو لم يغلق الممرات، بل تعمّد تركها مفتوحة. وهذه القراءة تتوافق مع قناعة فرنسية مبنية على معطيات تملكها ومفادها، انّ «حزب الله» يريد فعلياً ألّا تطول مرحلة الشغور الرئاسي، والسعي لإيجاد حلول مطلوبة للأزمات في لبنان.
لذلك، فإنّ باريس بدأت البحث عن خطة لتهيئة مناخ ملائم لإيجاد المخارج المطلوبة للبنان. ومن هذه الزاوية جاء الاتصال بين الرئيس الفرنسي وولي عهد السعودية.
أضف الى ذلك، انّ قصر الايليزيه يعمل على تجميع كافة الاوراق المتعلقة بالملف اللبناني لطرحها على الرئيس الاميركي، خلال القمة التي ستجمعهما في واشنطن بعد حوالى الاسبوعين، وحيث سيكون الوضع في لبنان أحد البنود المطروحة للبحث، بعد الحرب في اوكرانيا والأزمة التي تكاد تخنق اوروبا.
ومن هذه الزاوية يمكن القول ايضاً انّ نتائج الانتخابات النصفية الاميركية شكّلت خبراً ايجابياً للبنان. لكن سعي باريس لإيجاد حلول ما للأزمة في لبنان، لا يعني بالضرورة انّ الدخان الابيض سيتصاعد قريباً.
في الواقع، من الخطأ الاعتقاد انّه يمكن دفع لبنان باتجاه تسوية منفردة، وبعيداً عن ايران. فالواقعية تفرض قراءة المشهد بشكل معمّق، تماماً كما حصل مع ترسيم الحدود البحرية، حيث «طيف» ايران كان موجوداً عند الاعلان عن التفاهم. وهو ما يعني بأنّ إنجاز الصورة الكبيرة قد يكون بحاجة لبعض الوقت ولقدرات لا تمتلكها سوى واشنطن.
وبانتظار ذلك، سيجري ملء الوقت الضائع بمواقف تصعيدية، وربما ببعض الشغب، فيما الجيش سيتولّى منع انتقال الفوضى السياسية الى الشارع.
يُقال انّ المرحلة الختامية لاجتياز النفق المظلم قد تكون الأصعب، لكن الصحيح ايضاً انّ عام 2023 سيكون مختلفاً وبداية لمرحلة جديدة في تاريخ لبنان.