مسعى وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون الأخير، ومعه مساعده ديفيد ساترفيلد، لحلّ أزمة الغاز بين لبنان وإسرائيل، لا يمكن فصلُه عن مسار تفاوض أميركي طويل بدأ منذ العام 2009. وتكشف «الجمهورية» سياقَه غير المعلن كما سجّلته وثائق ديبلوماسية لبنانية وأميركية منذ انطلاقه حتى هذه اللحظة:
أولاً- عام 2009، تبيّن للبنان أنّ اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين قبرص وإسرائيل، كانت نتيجتها خسارة لبنان لنحو 850 كلم من منطقته الخالصة.
وسرّبت شركات نفط حينها معلومة تفيد أنّ رئيس الحكومة اللبنانية حينها فؤاد السنيورة بعث في 17-7-2010 برسالة للأمم المتحدة يُستفاد منها أنّ بيروت لا تعترض على هذا الترسيم، ولكن لم يتمّ إشهارُ هذه الرسالة، كما أنّ لبنان لم يفتح ملفّ التدقيق في صحّة هذه المعلومة. وفي كل الحالات فإنّ بيروت رفعت لاحقاً الى الأمم المتحدة مذكرة اعتراض على الترسيم القبرصي ـ الإسرائيلي.
ثانياً- عام 2010 تبرّعت واشنطن بحلّ المشكلة بدلاً من الأمم المتحدة. وتكشف مصادر عسكرية أنه طوال عامَي 2010 ـ 2011 ظلّت السفن الأميركية تجوب يومياً تقريباً، ذهاباً واياباً، السواحل اللبنانية والفلسطينية من بيروت حتى حيفا وتل أبيب، بغرض مسح مناطق الغاز فيها.
وعلى أثرها طرحت واشنطن عبر مبعوثها فريديك هوف أوّلَ تصوّر لحلّ النزاع، ومفاده رسم «خط هوف» الذي يقسم منطقة النزاع (مساحتها 850 كلم مربعاً) الى منطقتين، إحداهما مساحتها 468 كلم 2 وتعطى للبنان، والثانية مساحتها 392 كلم 2 لإسرائيل. وقال هوف حينها للمسؤولين اللبنانيين، إنه «يتوجّب على لبنان أخذ هذا الإقتراح كله أو تركه كله»، أي إنّ واشنطن لن تفاوض لتعديله.
عاد هوف لاحقاً الى لبنان في زيارة ثانية لاستكمال مهمّته. ويشرح هوف في محادثات ديبلوماسية منسوبة اليه، سببَ توقيت زيارته وطبيعة مهمّته وما دار بينه وبين المسؤولين اللبنانيين:
وبحسب حرفية ما يقوله هوف، فإنّ هناك سببين لعودته: الأول، «لأنّ إسرائيل مستعجلةٌ حلّ مسألة الحدود البحرية مع لبنان، وهي تعتبر أنّ الوقت هو العدوّ الأكبر لها في هذا الموضوع، نظراً للوضع السياسي والأمني المترهّل في المنطقة، إذ كلما تمّ التأخير في اتّخاذ القرار على هذا المسار، كلما قلت حظوظ نجاحه، ما قد يضيع على إسرائيل تنفيذ خططها الطموحة لدخول طفرة الطاقة». أما السبب الثاني فيتعلّق بمتابعة المقترحات التقنيّة التي كان تقدّم بها في زيارته الأولى المتعلّقة بطريقة معالجة مسألة الحدود البحرية اللبنانية ـ الإسرائيلية».
وشرح هوف اقتراحَه قائلاً:
«من الناحية التقنية إنّ الاقتراحات التي أحملها مبنيّة على أساس منهجيّةٍ تطبّقها عادة الدول التي لديها نزاعات بحريّة وانطلاقاً من سوابق دولية عدة.
ومختصر هذه الاقتراحات يهدف الى «تحديد رواق (كوريدور) بحري يكون بمثابة منطقة محظورة، ويخترق (هذا الرواق) خط وسطي أو خط أزرق بحري».
وبكلام مبسط يقترح هوف إنشاءَ مساحة زرقاء (كوريدور) تشمل المنطقة المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل، ويحظّر على أيٍّ من الطرفين التنقيب فيها، على أن يستمرّ التفاوض في شأنها، وذلك في الوقت نفسه الذي يبدأ فيه الطرفان اللبناني والإسرائيلي التنقيب والإنتاج في حقول الغاز الخاصة بهما والتي هي خارج النزاع، أي إخضاع المنطقة البحرية المختلف عليها للتجميد والتفاوض عليها، ومباشرة عمليات التنقيب والإنتاج في الحقول التي لا خلاف عليها. ولعلّ هذا ما يفسّر إصرار الرئيس نبيه بري على أن يكون الحقل 9 ضمن أوّل مزايدة لتلزيم حقول الغاز اللبنانية.
استبدل هوف في زيارته الجديدة لبيروت لغة التهويل بلغة الترغيب. حيث قال لمحدّثيه اللبنانيين أنّ الطرفين إذا وافقا على مقترحه، وسارا في تبديل قراراتهما في تحديد حدودهما البحرية، فإنهما سيجدان كثيراً من المساعدات التقنية الدولية وخصوصاً من الأمم المتحدة، وسيسهل هذا الأمر الحوار الجدّي في شأن الأمن البحري، وسيتحوّل لبنان محطة اهتمامٍ للمستثمرين في مجال الطاقة».
ويكشف هوف ما توصّل اليه حينها مع المسؤولين اللبنانيين، فيقول إنه لم يحصل على موافقة مباشرة منهم، ولكنّ محادثاته معهم «كانت مفيدة وجيدة». وقال: «لم يقل لي أحد (منهم) إنّ اقتراحاتي غير ممكنة التحقيق، بل شعرت أنّ لديهم حسّاً بالمسؤولية لإفادة البلد».
ويتوقف هوف خصوصاً عند محادثته مع رئيس الحكومة آنذاك نجيب ميقاتي، حيث يقول إنّ الادارة الاميركية تعتبر أنّ لميقاتي دور «المسهّل» داخل الدولة اللبنانية «لإمرار اقتراحاتي»، وأضاف: «أنّ واشنطن تترك لميقاتي تقدير متى يحين الوقت المناسب الذي يصبح فيه الوضعُ الداخلي اللبناني ملائماً للبدء بتنفيذ هذا الاقتراح (أي حلّ هوف)، ذلك أنّ قرار لبنان ليس في يده وحده، فهناك رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ووزراء في الحكومة».
وقال هوف «إنّ ميقاتي أبلغني أنه لا يتوقع إيجابيات سريعة على إقتراحاتي التي تقدّمتُ بها. ومع ذلك فإنّ الادارة الاميركية تقدّر التعاون المنهجي لميقاتي، وخصوصاً سعيه الى ضمان موافقة جميع الأطراف اللبنانية على اقتراحاتي».
ثالثاًـ عام 2015 قدّم هوف استقالته تحت مبرّر تقدّمه في العمر، على رغم أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما عرضت عليه التخلّي عن كل مهماته السابقة والإستمرار حصراً في متابعة حلّ أزمة الغاز بين لبنان وإسرائيل. وفي أيار 2016 عيّنت الادارة الاميركية أموس هوكشتاين لمتابعة الملف.
يقول هوكشتاين «عند تسلّمي مهمتي فإنّ الفكرة التي تشاركت فيها مع الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ونائب الرئيس بايدين، تتمثّل في أنّ «غاز المتوسط يمكنه أن يجعل كل دول شرق الأوسط تعمل معاً. وأهمية هذه الفكرة أنها تخدم مصلحة إسرائيل وتكسر عزلتها في إقليمها».
ويضيف هوكشتاين: «عندما بدأت مهمتي عام 2016 كانت علاقات إسرائيل وقبرص فاترة، وعلاقاتها مع مصر ناقصة التطبيع، وكان تعاونها ضئيلاً مع قبرص، وعلاقتها مقطوعة مع تركيا. لكنّ المسعى الأميركي لتطوير قطاعات الغاز في هذه الدول، أدّى الى استعادة إسرائيل علاقاتها مع تركيا (تمّ تبادل السفارات) والتطبيع مع مصر والأردن وايضاً مع قبرص».
(الحلقة الثانية: هوكشتاين مقترح مبدأ التوحيد)