Site icon IMLebanon

الولايات المتحدة وسياسة ضابط الإيقاع

 

لطالما اتبعت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيةً معقّدة تهدف إلى الحفاظ على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال خلق أو دعم قوى متنافسة فيما بينها، مما يتيح لها أن تبقى في موقع «ضابط الإيقاع» الوحيد. تُعدّ هذه الاستراتيجية جزءاً من سياسة الولايات المتحدة التاريخية في المنطقة، وكان أبرز المنظّرين والداعين لها وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، هذه السياسة التي تمتد لعقود وتظهر في شتى أبعاد العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية. تهدف في مجملها إلى إبقاء دول المنطقة في حالة توازن غير مستقر بحيث تظل واشنطن اللاعب الأساسي الذي يحدد مسارات الأحداث ويضمن استمرار نفوذه فيها.

تاريخياً برز الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط منذ بدايات القرن العشرين، إلّا أن تصاعد هذا الاهتمام جاء بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبحت المنطقة محوراً رئيسياً في الصراع الجيوسياسي خلال الحرب الباردة. ومع الطفرة النفطية، ازدادت أهمية الشرق الأوسط الاقتصادية والاستراتيجية. أدركت حينها واشنطن أن بقائها قوة عظمى على مستوى العالم يتطلب سيطرة أو على الأقل نفوذاً كبيراً في هذه المنطقة الحيوية الغنية بالموارد.

 

ومع ذلك، واجهت الولايات المتحدة مشكلة تتعلق بتعدد القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، حيث تتنوع الدول والقوى الإقليمية بتوجهاتها وأيديولوجياتها. ولذلك، كان الحل المثالي بالنسبة للإدارة الأميركية هو أن تجد توازنات بين هذه القوى المختلفة، وتدعم بعضها ضد الأخرى بما يحقق مصالحها. وبذلك، تصبح الولايات المتحدة القوة «المسيطرة» التي يمكنها التدخّل لضبط الإيقاع إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة.

لتحقيق هذا الهدف، اعتمدت الولايات المتحدة على سياسة «فرّق تسد» التي تقوم على تحفيز التنافس بين الدول والقوى الإقليمية لضمان عدم تكوين تكتل موحّد قد يهدّد المصالح الأميركية. ويمكن تتبّع هذه السياسة في عدة محطات تاريخية وأحداث كبرى، كان أبرزها:

1. إيران والعراق خلال السبعينيات والثمانينيات:

في هذه الفترة، دعمت الولايات المتحدة النظام العراقي برئاسة صدام حسين، خاصة خلال الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات، وذلك بهدف إضعاف الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت قد قامت عام 1979 وشكّلت تهديداً واضحاً للمصالح الغربية في المنطقة. كانت الولايات المتحدة تهدف إلى إبقاء العراق وإيران في حالة صراع حتى لا تبرز أي منهما كقوة إقليمية كبيرة يمكن أن تهدّد استقرار المنطقة حسب الرؤية الأميركية، ورغم الدعم الأميركي الواضح للعراق، عمدت الولايات المتحدة الى تزويد إيران بأسلحة نوعية فيما أصبح يعرف بقضية «إيران غيت»، في تأكيد للتوجه الأميركي.

2. التوازن بين السعودية وإيران:

تُعدّ العلاقات الأميركية مع المملكة العربية السعودية متميزة، وبدأت بقوة في اللقاء الشهير الذي جمع بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في العام 1945 على متن حاملة الطائرات كوينسي، حيث أصبحت السعودية حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة في الخليج. ومع ذلك، تدرك واشنطن أهمية الحفاظ على توازن القوى بين السعودية وإيران، الدولتين الكبيرتين في المنطقة، وذلك لأن تصاعد نفوذ أي منهما بشكل كبير قد يؤدي إلى تغيّرات غير متوقعة. تدعم الولايات المتحدة السعودية عسكرياً واقتصادياً بشكل مباشر، لكنها في الوقت نفسه تتجنّب التصعيد المباشر ضد إيران، مما يضمن استمرار حالة التوتر التي تخدم مصالحها، وكانت فترة حكم الشاه أيران شاهد بارز عن توجهات الإدارات الأميركية المتعاقبة، حيث لعبت إيران دور شرطي الخليج بتحالفها مع الولايات المتحدة.

3. دعم جماعات متضاربة خلال الربيع العربي:

مع اندلاع الثورات في عدة دول عربية عام 2011، اعتمدت الولايات المتحدة نهجاً مغايراً، حيث دعمت بشكل غير مباشر جماعات مختلفة أحيانًا داخل الدولة الواحدة، مثلما حدث في سوريا. فعلى الرغم من معارضتها العلنية لنظام الأسد، تجنّبت الولايات المتحدة دعم معارضة موحّدة، مما أدّى إلى نشوء جماعات متنافسة ومتناحرة داخل سوريا، وذلك بهدف إبقاء النزاع تحت السيطرة وإضعاف قدرة أي طرف على التفوق على الآخر.

4. إسرائيل والفلسطينيين ودول الجوار:

منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، تبنّت الولايات المتحدة دعماً غير محدود لهذه الدولة، لكن في الوقت نفسه حافظت على مستوى معيّن من العلاقات مع بعض الدول العربية، واستغلت الصراع العربي-الإسرائيلي لخلق نوع من التوتر المستمر الذي يبرر تدخّلها ويتيح لها أن تكون الوسيط الرئيسي في أي عملية سلام محتملة، وكان مهندس تلك التوجهات هو هنري كيسنجر حيث مارس دوراً سياسياً في جذب مصر الى المعسكر الغربي وسلخها من تحالفها مع السوفيات، وفي الوقت عينه كان لد دور مفصلي في دعم إسرائيل، وكان له ما أراد في إتمام صفقة كامب – دايفيد.

ثالثاً: الأهداف الأميركية من سياسة خلق التنافس:

تسعى الولايات المتحدة من خلال هذه الاستراتيجية إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية، من بينها:

1. ضمان التفوّق العسكري والاقتصادي الأميركي:

تعتبر الولايات المتحدة أن توازن القوى في الشرق الأوسط يضمن عدم بروز قوى إقليمية قد تهدد المصالح الأمريكية أو تشكل تحديًا لنفوذها. ولذلك، تدعم واشنطن بقاء النزاعات بين القوى الإقليمية لضمان عدم تكتلها أو تحالفها ضدها.

2. تحقيق الاستقرار وفق المصالح الأميركية:

تعتقد الولايات المتحدة أن حالة «الاستقرار غير المستقر» أو التوتر المستمر هو أفضل خيار للحفاظ على مصالحها. فكلما استمرت النزاعات بين القوى المحلية، زادت حاجتها إلى الحليف الأميركي الذي يتدخّل عند الضرورة للحفاظ على هذا «التوازن».

3. تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي:

يتيح الدعم الأميركي المتفاوت لقوى إقليمية مختلفة تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة، حيث تعتمد دول المنطقة بشكل كبير على الأسلحة والمساعدات الاقتصادية الأميركية، ما يجعلها أكثر قابلية للتأثر بالسياسات الأميركية.

4. إبقاء الاعتماد على الولايات المتحدة:

كلما زاد اعتماد الدول في الشرق الأوسط على الدعم الأميركي لضمان توازنها مع الدول المجاورة، ضمنت واشنطن بقاء نفوذها وفرض سياساتها في المنطقة، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

رغم نجاح هذه الاستراتيجية الأميركية على مدى عقود، إلّا أنها تواجه تحدّيات عدة. فقد أدّى هذا النهج إلى حالة من الاستنزاف المستمر للموارد والبنية التحتية في دول المنطقة، وزيادة الانقسامات الداخلية. علاوة على ذلك، بدأت قوى جديدة تبرز في الساحة، مثل الصين وروسيا، اللتين تحاولان استغلال هذه التوترات لتعزيز نفوذهما في المنطقة.

 

كما أدّت هذه السياسة إلى تعقيد العلاقات الأميركية مع بعض حلفائها التقليديين، الذين بدأوا يبحثون عن شركاء جدد أو استراتيجيات مستقلة تخفف من اعتمادهم على الولايات المتحدة.

 

إن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والتي تقوم على خلق قوى متنافسة واستثمار حالة التوتر لضمان نفوذها، تعكس فهماً عميقاً لأهمية هذه المنطقة على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي. ورغم ما قد تبدو عليه هذه الاستراتيجية من نجاح في إبقاء الولايات المتحدة القوة المهيمنة، إلّا أنها تحمل في طيّاتها مخاطر تجعل من مستقبل هذا النفوذ غير مضمون، خاصة مع تزايد الوعي الإقليمي بضرورة البحث عن حلول أكثر استدامة لتحقيق الاستقرار بعيداً عن التدخلات الخارجية.

* محام – دكتوراه في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية