فتح السفارة الأميركية في القدس العربية المحتلة، ليس إجراءً ديبلوماسياً عادياً، بل هو تتويج لمسار أميركي طويل حافل بالسياسات المعادية للمصالح العربية، الآني منها والمستقبلي. وما يؤكد ما نذهب إليه، الرعاية المديدة التي تميزت بها السياسة الأميركية للمماطلة الإسرائيلية في تنفيذ ما اتفق عليه في بيان أوسلو، في النصف الأول من عقد التسعينات من القرن الماضي، وكذلك التصدي الدائم بالفيتو في مجلس الأمن، لكل ما من شأنه أن يشير إلى العدوانية التي تمارس ضد الفلسطينيين، ولكل الإجراءات التي قد تساهم، في حال إقرارها، بتلبية جوانب ضئيلة من الحقوق الفلسطينية المعترف بها في كل المواثيق الإنسانية والعالمية.
منذ رئاسة بيل كلينتون، الرئيس الأميركي الذي رعى اتفاق أوسلو، وسيرة الحقوق الفلسطينية تسلك طريق القهقرى، في الوقت الذي تسير فيه سيرة الاستيطان الإسرائيلي على جادة التصاعد والتصعيد. لم تقف الإدارة الأميركية منذ تلك الأيام وحتى تاريخه، لتقول، ولو همساً، إن ما يحصل على الأرض مخالف لما جرى الاتفاق عليه كخطوة تاريخية أولى، على طريق حل مسألة الصراع العربي– الصهيوني، الذي كان عنوانه وما زال، حل القضية الفلسطينية وفق الاعتراف بكينونة الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، لها علم ونشيد وعاصمة، وحق في إعادة وصل ما انقطع من تاريخ التطور المجتمعي، ومن تاريخ بناء الشخصية الفلسطينية وتطورها في إطارها الطبيعي الواقعي، أي فوق أرض فلسطين، ومع هذا وذاك، كل تاريخ فلسطيني مقطوع أو مبتور بفعل الاحتلال الصهيوني المدعوم بقوة الإرادة الدولية، وبوسائلها المادية والسياسية.
وما هو معلوم في هذا المجال، أن هذه الحقائق الفلسطينية معروفة لدى كل العواصم الغربية والشرقية، ولا يغيب عن هذه العواصم واقع العلم بأسطورة الوعد اليهودي الإلهي، ويعلم المقرر الدولي، الحامي والداعم، أن «المسألة اليهودية» تجد أصل معضلاتها وفصل مشكلاتها في البنية المجتمعية الرأسمالية، أي ضمن جنبات المجتمعات التي «لم تهضم» الوجود اليهودي لأسبابها الدينية والدينوية.
هذا التذكير بأصل المشكل الفلسطيني ليس حديثاً من الماضي، بل هو حديث حاضر، وهو حديث للمستقبل، ذلك أن استمرار التزوير السياسي «الغربي» لأصل المسألة اليهودية ما زال قائماً، وأصل التبرير «العقلي» الغربي للأفعال السياسية الصهيونية ما زال ماثلاً، وممارسة التطهر من الذنب الذي اقترفه الغرب الرأسمالي بحق مواطنيه اليهود ما زالت مستمرة، وإزاحة الجريمة هذه عن كاهل مرتكبيها، وتحميل وزرها للضحية العربية، ما زالت تشكل لبَّ وجوهر كل السياسات الغربية حتى وإن اختلفت نبراتها.
والسؤال الأول الذي يطرح في هذا المجال، لماذا تحول دعم الكيان الغاصب فوق أرض فلسطين إلى مسألة أخلاقية تحتل العقل الغربي الرأسمالي عموماً؟ والسؤال الثاني، الموازي وفي نفس السياق، لماذا يعمى بصر وبصيرة أخلاق ذات «العقل المستنير» عندما يتعلق الأمر بالضحية العربية؟ أما السؤال الثالث فهو، لماذا يسهل على السياسة الغربية عموماً، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، إيجاد «عدو عربي» لها، تارة باسم القسمة العالمية بين محورين، اشتراكي ورأسمالي، وتارة باسم القسمة الدينية باسم عالمين، مسيحي وإسلامي، ودائماً باسم منطقتين، الشمال الغني والجنوب الفقير! وفي سياق السهولة هذه، تصير شعوب بأكملها بيئة إرهاب، أو محور شر على ما وصف به الاتحاد السوفياتي ذات يوم، أو مناطق خارجين على القانون، وفق التصنيف الذي جرى لصقه بالبلدان التي قامت فيها ثورات شعبية ضد النهب والاستغلال لخيراتها ومقدراتها!
سهولة وصف الأعداء، أتاحت للسياسات الإمبريالية المتعددة سهولة وصف الأصدقاء والحلفاء، وهنا صارت إسرائيل المصطنعة، موقعاً متقدماً للديموقراطية في وجه التخلف العربي! وصارت نقطة ضوء ستنتشر كنور اشتراكي، وفق الستالينية التي دعمت قيامها… وعلى ذلك، جرى دعم كل نظام مستبد في وجه شعبه، لأنه كان حليفاً، وجرى دعم العدوانية الصهيونية لأنها رأس حربة ضد الجهالة العربية… هذا ولم تقل «الأخلاقية» الغربية يوماً، أن الكيان الصهيوني يشكل قاعدة متقدمة للمصالح الرأسمالية، بحيث يكون وجوده نقطه انطلاق ضد كل ما يهدد هذه المصالح، في الجوار العربي، وفي المدى الإقليمي.
اليوم، ما زال الفلسطينيون يتصدون للتزوير العقلي الغربي، وللتحوير المصلحي الرأسمالي، ولمفاعيل الأسطورة الإلهية الزائفة.
واليوم أيضاً ما زالت الحقيقة الفلسطينية تواجه بقوة كسر عنق كل حقيقة، ما دامت تتعارض ونظرة من يسعى إلى إعادة «تنميط» العالم، وفقاً لمنطق «الوجبات السريعة» الأميركية… ويستمر النضال الفلسطيني ضد منطق الوجبات.