Site icon IMLebanon

تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية وتأثيراتها على لبنان

 

 

لطالما كانت الولايات المتحدة الأميركية اللاعب الرئيسي على الساحة الدولية، ومع كل دورة انتخابية جديدة لرئيس أميركي، يشهد العالم تحوّلاً في السياسات والاستراتيجيات الأميركية تجاه القضايا الإقليمية والدولية. هذا التأثير يتجلّى بوضوح في الشرق الأوسط، وخاصةً في لبنان، حيث تركت سياسات الرؤساء الأميركيين آثاراً بارزة على الأحداث الداخلية. ومن هنا يقتضي استعراض تأثير الانتخابات الرئاسية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية على لبنان، وكيف أسهمت السياسات المختلفة في تشكيل واقع لبنان السياسي والاقتصادي والأمني.

الحرب الباردة ولبنان كواجهة للصراع (1945 – 1958)

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى ورثة التركة البريطانية والفرنسية في المنطقة في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وبدأت الحرب الباردة التي قسمت العالم بين معسكرين. ومع حلول عام 1952، انتُخب دوايت آيزنهاور رئيساً للولايات المتحدة، ليبدأ حقبة جديدة من التدخلات الأميركية في الشرق الأوسط، في ظل «مبدأ آيزنهاور»، الذي يقوم على احتواء النفوذ السوفييتي في المنطقة.

في لبنان، تزامنت فترة رئاسة آيزنهاور مع أزمة عام 1958، حيث نشبت اضطرابات داخلية بسبب التوترات الطائفية والانقسامات السياسية. خشيةً من انتشار الشيوعية وتعاظم التأثير السوفييتي، أرسل آيزنهاور قوات أميركية إلى بيروت في الخامس عشر من تموز، وذلك بعد يوم من سقوط النظام الملكي الهاشمي في العراق، وهي أول مرة تتدخل فيها أميركا عسكرياً في لبنان، بهدف دعم الحكومة ومنع انهيار النظام القائم. كان هذا التدخّل يحمل رسالة واضحة إلى الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة مستعدة للوقوف بوجه المد الشيوعي حتى في المناطق البعيدة.

 

سياسات جون كينيدي ونيكسون ودورها في لبنان (1961 – 1974)

في عهد الرئيس جون كينيدي، تحوّلت السياسة الأميركية نحو دعم الاستقرار والحد من التدخّل العسكري المباشر، ليكون لبنان أكثر أمناً نسبياً. لكن مع تولي ريتشارد نيكسون الحكم في 1969، عاد الصراع إلى الواجهة، فقد شهدت تلك الفترة صعود منظمة التحرير الفلسطينية ونقل قواعدها إلى لبنان بعد أحداث أيلول في الأردن، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني، وتفاقم الأمر بعد توقيع اتفاق القاهرة بين لبنان والفلسطينيين.

كانت سياسة نيكسون تجاه لبنان تتمثل في دعم حلفائه الإقليميين، خاصةً إسرائيل، في إطار استراتيجيات الحرب الباردة، بينما كانت تكتفي الولايات المتحدة بدعم الحكومات اللبنانية من بعيد، ما جعل لبنان يواجه تحديات أمنية متزايدة، تمثلت في الاشتباكات بين الأطراف اللبنانية والفصائل الفلسطينية، مما أسهم في تصاعد التوترات وأدّى في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.

جيمي كارتر والحرب الأهلية اللبنانية (1976 – 1980)

مع وصول جيمي كارتر إلى السلطة في 1976، كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد اندلعت بالفعل، ووصلت الصراعات الطائفية والسياسية إلى ذروتها. حاول كارتر انتهاج سياسات حقوق الإنسان والدبلوماسية للحدّ من التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج، لكنه استمر في دعم مبادرات الأمم المتحدة للوساطة بين الأطراف المتنازعة في لبنان.

رغم ذلك، لم تكن سياسات كارتر قادرة على حل الأزمة اللبنانية، بل شهدت المنطقة مزيداً من التدخلات من دول الجوار، وخاصة من قبل سوريا وإسرائيل، مما جعل الوضع اللبناني أكثر تعقيداً. كان للولايات المتحدة دور غير مباشر، حيث دعمت محادثات السلام من خلال مبادرات إقليمية ودولية، لكنها لم تتمكن من كبح الصراع الداخلي، وكانت تلك الفترة متوجة بتوجهات وزير الخارجية الأميركية هنري كسينجر ورؤيته لحل الصراع في المنطقة.

 

حقبة ريغان وتدخّل القوات الأميركية في لبنان (1981 – 1989)

 

شهدت فترة رئاسة رونالد ريغان أحد أكبر التدخلات الأميركية في لبنان بعد التدخّل العسكري في 1958. في عام 1982، قامت إسرائيل بغزو لبنان بغرض القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتمركز هناك. على إثر ذلك، أرسلت الولايات المتحدة قوات بحرية إلى بيروت ضمن قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات، لكنها سرعان ما أصبحت طرفاً في النزاع.

وفي عام 1983، استهدفت ثكنة المارينز في بيروت بهجوم انتحاري أودى بحياة 241 جندياً أميركياً، مما شكّل صدمة للولايات المتحدة وأدّى إلى انسحابها العسكري من لبنان في 1984. هذا الحدث كشف عن هشاشة التواجد الأميركي العسكري في لبنان وأظهر مدى تعقيد الصراع اللبناني، حيث بات من الصعب على الولايات المتحدة السيطرة أو التأثير بشكل مباشر على مجريات الأحداث، مما جعل ريغان يتبنّى لاحقاً سياسة أكثر حذراً تجاه لبنان، وكانت تلك الفترة قد شهدت بداية الدخول الإيراني على خط الصراع والنفوذ في لبنان.

 

جورج بوش الأب ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1989 – 1993)

شهدت فترة جورج بوش الأب نهاية الحرب الأهلية اللبنانية بفضل اتفاق الطائف، الذي تم بوساطة سعودية ودعم أميركي غير مباشر. رغبت الولايات المتحدة في تحقيق الاستقرار في لبنان كجزء من استراتيجية أميركية أوسع لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة.

أسهم الدعم الأميركي غير المباشر في نجاح اتفاق الطائف، الذي أنهى النزاع المسلح في لبنان ووضع أسساً لنظام سياسي جديد. مثّل هذا التحوّل نهاية مرحلة الصراعات الأهلية، لكنه لم ينهِ التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية، حيث استمرت سوريا في لعب دور رئيسي في الساحة اللبنانية، بعد انضمام سوريا للتحالف الدولي لإخراج القوات العراقية من سوريا، وتفويضها لاحقاً بالملف اللبناني.

ما بعد 11 سبتمبر والتحوّلات في السياسات الأميركية (2001 – 2009)

بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، دخلت السياسة الأميركية تجاه لبنان مرحلة جديدة تحت إدارة جورج بوش الابن. بدأ بوش حملة «الحرب على الإرهاب»، واعتبر حزب لله تهديداً أساسياً في المنطقة، مما أدّى إلى زيادة الضغط على لبنان لتقليص نفوذ الحزب، الذي يُعتبر حليفاً رئيسياً لإيران وسوريا.

وفي عام 2005، وبعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، دعمت الولايات المتحدة القرار 1559 لمجلس الأمن الذي دعا إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، في توافق أميركي – فرنسي بعد فترة من الاختلاف، وشهدت الفترة تلك انقسامات حادّة في الداخل اللبناني وما تزال، ونتج عنها انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد عقود من الهيمنة.

أوباما وترامب: سياسات غير مستقرّة تجاه لبنان (2009 – 2021)

خلال رئاسة باراك أوباما، اتخذت الولايات المتحدة نهجاً أقل تدخّلاً تجاه لبنان، حيث ركّزت على القضايا النووية الإيرانية، مع تقليل الدور الأميركي في الصراعات الإقليمية. في هذه الفترة، تزايد نفوذ حزب لله في لبنان، ما أثار مخاوف إسرائيل وحلفاء واشنطن في المنطقة.

أما مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، فقد شهدت سياساته تصعيداً ضد إيران وحزب لله، حيث فرضت إدارته عقوبات شديدة على الحزب ومؤيديه. أثرت هذه السياسات على الاقتصاد اللبناني، وزادت من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، خاصةً مع تفاقم الأزمات المالية التي عانى منها البلد منذ 2019.

منذ الحرب العالمية الثانية، تركت كل إدارة أميركية بصمتها على الأحداث في لبنان، سواء عبر التدخّل المباشر أو من خلال دعم قوى إقليمية أو دولية. ومع كل انتخابات رئاسية جديدة، يتغيّر مسار السياسة الأميركية تجاه لبنان، بما يتماشى مع استراتيجيات البيت الأبيض وظروف المنطقة. يبقى السؤال حول رغبة الولايات المتحدة في تحقيق استقرار حقيقي في لبنان، خاصةً في ظل التعقيدات الداخلية والتدخلات الخارجية، ما يجعل تأثير الانتخابات الأميركية على لبنان دائمة التغيّر وغير قابلة للتنبؤ.

* محامٍ – دكتوراه في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية